صناعة الوهم: صورة لبنان في الملصقات السياحية

03 اغسطس 2022
انتشرت ملصقات "أهلا بهالطلة" على كل الأراضي اللبنانية (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -

يتقدّم ثلاثة عناصر من قوى مكافحة الشغب باتجاه مكان الكاميرا. تُحاول محتجة تجاوزهم بينما يصدح صوت امرأة من خلف الكاميرا مُغنيّة "أهلا أهلا أهلا... أهلا بهالطلة". حصل هذا يوم الخميس 28 يوليو/تموز الماضي، خلال محاولة عدد من المحتجين في لبنان اقتحام وزارة الطاقة، وذلك احتجاجاً على العتمة التي يغرق فيها البلد منذ فترة طويلة.

ترحيب المحتجّة بالعناصر الأمنية على وقع كلمات أغنية "أهلا بهالطلة" للفنانة صباح، لم يأتِ من عبث. بل جاء امتداداً للحملة الاعلانية التي أطلقتها وزارة السياحة اللبنانية، والتي اعتمدت عنوان الأغنية شعاراً لها. على قاعدة "معك قرش بتسوى قرش" افترشت الطرقات لوحات إعلانية شعارها "أهلا بهالطلّة"، تتوجّه الدولة اللبنانية من خلالها إلى السياح والمغتربين القادمين إلى لبنان لقضاء عطلتهم الصيفية. توظيف شعار الحملة من داخل وزارة الطاقة بدا أكثر منطقيّةً وواقعية من الحملة الأصل. لبنان ليس بخير، عن أي سياحة تتكلّمون؟

منتصف يوليو، رافقت الوسائل الإعلامية وزير السياحة اللبناني وليد نصار إلى محيط مطار رفيق الحريري الدولي، لإطلاق الحملة الاعلانية والاحتفاء باستبدال الشعارات الحزبية بـ"صور عن جمال لبنان". حدث عظيم، خصّص له حساب الوزارة في موقع تويتر منشوراً خاصاً. صورٌ للوزير وسط الطريق العام المؤدي إلى المطار، وفي الخلفيّة لوحات إعلانية ومن حوله حشدٌ من الاعلاميين والكاميرات. بعيداً عن الصفر جماليّة في الصور المنشورة، خاصة مع معرفة الكثيرين حال محيط المطار في بيروت، سواء طرقاته أو الروائح مجهولة المصدر التي تهبّ بين وقت وآخر... لكن ماذا عن الصور المُختارة لهذه الحملة؟ ألوان خاطفة، شجر، غابات وأنهار بألوان عجيبة. جمال مُستغرب بشكل عام، ولكن أكثر تحديداً في شوارع بيروت، جمال هزيلٌ وباهتٌ في مدينة لا توفّر إلاّ نحو 3.9 أمتار مربعة من المساحات الخضراء للفرد الواحد من سكانها على سبيل المثال لا الحصر. وعلى الهامش، هذه واحدة من أدنى النسب في العالم.

هذا الوهم على الصعيد الرسمي، المفهوم في سياقه، تمدّد واحتلّ مكاناً في الوسائل الإعلامية وكذلك في مواقع التواصل الاجتماعية. كلّما انهار البلد أكثر، وكلّما زادت المعاناة وصعوبة تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة، مالت الكفّة للترويج لـ"حقيقة لبنان". صفحات وحسابات مُصمّمة على حقيقة لا أثر لها في الواقع "لا لا هيدا مش لبنان. تعوا فرجيكن لبنان الحقيقي. تعوا زوروا لبنان". شعور ما بالوطنية والاندفاع، وكذلك ميلٌ غريب إلى تبنّي الإيجابية المطلقة، ما ساهم في خلق وطنٍ رقميّ موازٍ لذاك الحقيقي: بلد مُتخيّل تفصل بينه وبين البلد الأصل ملايين السنين الضوئية. ترويج للسياحة بأي ثمن، مهما بدا الأمر قاسياً وهزيلاً في آن. مُحاكاة الجمال هذه تمرّ عبر صور ملتقطة بأحدث الكاميرات، وخاضعة قبل النشر لأكوام من الفلاتر وتقنيات تعديل الألوان وغيرها.

في حملتها الأخيرة، "صيف لبنان 2022 – أهلا بهالطلة"، تعاونت وزارة السياحة مع صفحة/حملة/المنظمة غير الحكومية Live Love Lebanon. هذه الأخيرة، ومنذ سنوات، شكّلت عنواناً للخيال ومركزاً لتعلّم تقنيات صناعة الوهم. عنوان معروف على موقع إنستغرام. تهدف الصفحة إلى "المشاركة والاحتفال والمساعدة في الحفاظ على جمال لبنان". ولكن كيف تنجح كاميرا في التقاط الجمال وسط هذا الكمّ من الخراب غير الإنساني وغير المقبول؟

تعاون هذه الصفحة مع جهة رسمية من أجل الترويج للسياحة عملاً بمبدأ "إظهار صورة لبنان الحقيقية"، إمعانٌ وتواطؤ في تجاهل الواقع. تلفّ لبنان مشاكل لا إمكانية لإحصائها، هذا إضافة إلى العجز الرسمي التامّ عن إيجاد حلول لأيّ منها، وإذ تُفعّل الجهات الرسمية قدراتها لتحريك السياحة بشعارات غير واقعيّة.

في حديث سريع إلى مجموعة من المغتربين المتواجدين حالياً في لبنان، استمعنا إلى كمّ من الشكاوى لا حصر له. لا طرقات مضاءة، لا بنزين، لا خبز، لا كهرباء، لا أسعار واضحة، هذا عدا عن سعر صرف الدولار المتروك لرغبات التجار. ولو افترضنا أن سكان البلد لا قيمة لهم، ولا مطالب لهم ووضعناهم جميعاً على الهامش، أليس على الجهة الداعية إلى السياحة أن تؤمّن لزوارها الحدّ الأدنى من الخدمات؟ هل تكفي الاستعراضات البصرية من أجل الحديث عن بلد سياحي؟ هل صورة الشاطئ اللبناني الجميلة كفيلة بالحدّ من تلوثه؟ ليس خفيّاً على أحد أن الشاطئ اللبناني ملوّث. أكثر تحديداً، الشاطئ ملوث بجسيمات بلاستيكية دقيقة، حسب دراسة أنجزها طلاب فرع الكيمياء في الجامعة الأميركية في بيروت. وهذه الملوثات الكيميائية السامة، في حال تعرّض الانسان لها "بشكل مفرط" تؤدي إلى أمراض خطيرة. ماذا فعلت الدولة اللبنانية؟ وهل نترك أحباءنا السياح والمغتربين يسبحون في مياه ملوّثة؟ هل هكذا نستقبل الزوار؟

في جولة بين منشورات صفحة Live Love Lebanon، تبدو الكهرباء متوفّرة 24 ساعة في البلد. بحر لبنان وشواطئه من أجمل ما يكون، ألوان زرقاء وأناس سعداء ورمل وقوارب صغيرة. بيوت جبلية ساحرة، ومسابح هائلة الحجم، بديعة التصميم. شوارع نظيفة، وأحراج، ومياه متدفّقة، صافية وأناس يتنزّهون مع سلال مليئة بالخبز الفرنسي ومربى التين. هذا نمط حياة فئة قليلة من سكان البلد، قليلة بشكل لافت. وإن تغاضينا عن مشكلة تعميم نمط حياة واحد وتقديمه على أنه الصورة الأدق "الحقيقية" عن لبنان، فكيف يُمكن التغاضي عن أزمة بلد تعجز الأغلبية فيه عن إيجاد ربطة خبز واحدة؟ عن إيجاد دواء في الصيدلية أو دفع فاتورة مستشفى؟

المساهمون