صبا طعمة غزول: العالم مدين للسينما بلحظة خلود

30 مارس 2023
في الغد ربما سأكون أنضج، لكني بحاجة إلى أن أكمل هذا النهار (من المخرجة)
+ الخط -

صبا طعمة غزول، مخرجة سورية من مواليد حمص عام 1986، درست الفنون الجميلة، وحصلت أخيراً على دبلوم العلوم السينمائية من "المؤسسة العامة للسينما"، أخرجت فيلماً قصيراً تحت عنوان "بعيداً عن الزمن".
تستند قصة الفيلم إلى عمل للمخرج العراقي قيس الزبيدي "بعيداً عن الوطن" (1969). تدور أحداث فيلم غزول في دار "سينما الكندي" في دمشق، حول محاولات شاب وفتاة مشاهدة فيلم "بعيداً عن الوطن"، رغم انقطاع التيار الكهربائي. تتركز الحبكة حول فايزة، بطلة فيلم الزبيدي، وهي طفلة في مخيم اللاجئين الفلسطينيين في منطقة سبينة قرب دمشق، الذي يعيش فيه اللاجئون الفلسطينيون منذ سنة 1948. وهي أيضاً مجازياً أمٌّ لأبطال فيلم طعمة، الذين يحاولون استرجاع ذكرياتهم معها من خلال الفيلم. تنسحب الكاميرا في نهاية العرض، لتخرج من بين مقاعد الدار، تظهر الطفلة نيسان (أربعة أعوام)، وهي ابنة المخرجة، كاستمرارية لحضور المأساة وفايزة في السينما وفي الذاكرة السورية.

ماذا تعني لكِ الذاكرة السورية؟ بمعنى آخر، البيئة الاجتماعية والثقافية التي جئتِ منها وحضور السينما فيها؟
أنا ابنة الريف بكل ما تحمل هذه الكلمة من عطاء، الأصلُ الذي شكّل بدايات معالم شخصيتي، وسأفخر به دوماً. نشأتُ في عائلة فقيرة متواضعة لأب وأم غنيين بالعطاء فقيرين بالمال. بسبب الوضع المادي المتردي، كانت جميع الفنون منبوذة نوعاً ما في مسقط رأسي في مدينة القصير في حمص. أذكر اللحظة الأولى التي شاهدت فيها آلة موسيقية، كنتُ في الصف السادس، ولا أزال حتى الآن أحتفظ بأجزاء من رهبة اللحن المنبعث من آلة العود إلى أذني مباشرةً.
أما عن الرسم، فقد رافقني منذ طفولتي المبكرة، كان باباً لخلق الشجار، بحجة إضاعة الوقت دون جدوى. وعندما قررت دراسة الفنون الجميلة، كان رد أبي مختصراً: "الرسم ما بيطعمي خبز"، محاولةً منهُ ليعلمني درساً جديداً في الحياة. لا أعلم كيف غاب عن بالِه أنه كان قد عجنني بروح الإصرار.
مع الرسم، أتى التحول الأول في حياتي. من خلال دراستي الأكاديمية، استطعت أن أدرك أنني أملك عيناً إن حصلت على دربة أكاديمية وذاتية ستمكنني من رؤية الأشياء من وجهة نظر خاصة.
السينما كانت مفقودة تماماً لمدة طويلة جداً في حياتي. دخلتُ عالمها في أحد نوادي السينما في دمشق. كان لقاءً لا عودة منه. خلال ست سنوات، واظبت على المشاهدة فقط، درست بعدها دبلوم العلوم السينمائية لغاية مني لإشباع فضولي بمعرفة ماهية أدوات تلك الصناعة، وقعت حينها في الفخ، فخ الخلق من العدم إلى الكمال.

ما الذي دفعك لتسخير دراستك للرسم والفنون التصويرية وتجاربك في التصوير الفوتوغرافي في سبيل دراسة الإخراج وكتابة السيناريو؟
لا يمكن للدوافع أن تكون شخصية على الإطلاق، من الصعب الجزم بوجود رغبة واعية لدي تدفعني لإدخال خبرتي في الرسم أو التصوير أو حتى كتابة الشعر في عمل سينمائي. العمل السينمائي في بنيته يستوجب جمع تلك الفنون وغيرها حتى يكتمل.
على سبيل المثال، إذا تفحصنا خلفية بعض المخرجين المؤثرين في تاريخ السنيما لعرفنا أن الفيلم السينمائي هو الابن الشرعي لما حمله هؤلاء المخرجون من فنون. إنغمار بيرغمان كان رساماً قبل أن يدخل معترك الإخراج السينمائي. وبالنظر إلى أعماله، يمكن أن ترى أنه استطاع الانتقال من المشهد السينمائي المادي المرئي، إلى مكون ما ورائي محسوس. نقطة قوة بيرغمان الأساسية تكمن بالتحديد في قدرته على تطويع الصورة لخلق دلالاته الخاصة والتعبير عن فلسفته.
أندريه تاركوفسكي كان رساماً وموسيقياً وممثلاً مسرحياً لأب شاعر وأم أديبة. هذه مفاتيح سينماه الشعرية لسبعة أفلام كانت ذروة تلك الفنون مجتمعة. سيرغي بارغانوف كان مغنياً وعازفاً محترفاً على آلة الكمان، وأيضاً فناناً تشكيلياً، استطاع صهر كل تلك الفنون في تحفه السينمائية والتي كانت، برأيي الشخصي، أهم ما أنتجته السينما السوفييتية. الأمثلة تطول، ومن هنا أستطيع القول إن الفيلم السينمائي هو ذروة التناغم بين الفنون مجتمعة.

بالنسبة لعنوان الفيلم وتطرّقك المباشر للابتعاد عن الزمن وحصر معظم المَشاهد في "سينما الكندي" في دمشق، ماذا يعني المكان في سينماك؟ هل هي محاولة لصهر أزمنة مختلفة بما تحملها من معاناة في عرض واحد؟ وإلى مَن تنتمين أنتِ اليوم؟
عندما مارست التصوير الفوتوغرافي كنت معجبة بفكرة تخليد اللحظة. في أحد معارض الفنان غسان نعنع، بعدما طلبت منه إحدى الصحافيات التحدث عن لوحاته، أجابها باقتضاب شديد: "لو كان عليّ الشرح لكنت كتبت ما أريد عوضاً عن الرسم". جل ما يريده هو هذه اللوحة التي ستخلد أفكاره بعد رحيله، حاله حال الكاتب مع روايته والموسيقي مع ألحانه.
أما في السينما، فالموضوع يختلف، ليس باستطاعتنا فقط تثبيت الزمن أو خلق زمن خاص، إنما بعث الحياة من جديد في كل مرة يعرض فيها الفيلم ذاته، حياة يكون فيها هذا المتغير أحد شخصياته، خاضعاً لشروطه الخاصة وليس العكس، أظن أن العالم مدين للسينما بلحظة خلود محسوسة.
المكان أيضاً أحد شخصيات الفيلم الأساسية، لا يمكنه أن يكون ثانوياً حتى. في فيلم "بعيداً عن الزمن"، كنت بحاجة إلى أن تدور الأحداث في قاعة سينما تصارع للبقاء على قيد الحياة، رغم كل الظروف من حرب وتهميش. كما كانت فايزة في فيلم الزبيدي، كُنتُ ملزمة باختيار قاعة الكندي لأسباب تتعلق بالإنتاج، لكن المعنى كان سيستوفى في أي قاعة سينمائية سورية أخرى للأسف. جميع قاعات السينما في سورية تمثّل فايزة التي تُستحضر ذكراها عبر أبنائها. كُلهم مبعدون، الأمكنة ترفضهم، يعيشون على هامش الحياة، وهناك عند الخيمة التي تكاد الريح تبتلعها، رجل يحمل كاميرا ويكافح كي لا يتوقف نَبضهم. أنتمي إلى اليوم، اليوم هو مجموعة كل التجارب التي صنعتني، في الغد ربما سأكون أنضج، لكني بحاجة إلى أن أكمل هذا النهار.

ما الصعوبات التي واجهتك خلال العمل على الفيلم تقنياً ولوجستياً، خاصة أننا نتحدث عن العمل من داخل سورية؟
من الأسهل حصر التسهيلات لطلاب السينما في سورية، أما الصعوبات فالحديث عنها يطول، الدراسة كانت بمثابة نضال حقيقي على مختلف الأصعدة، بدايةً من الثالوث المحرم: الدين والسياسة والجنس، إذ لا يمكن الاقتراب منه إلا ضمن قوالب محددة. التدريبات العملية كانت مجهوداً شخصياً لبعض الأساتذة.

لا أنكر الافتقار إلى الخبرة في فيلمي الأول كتوزيع الكاميرات والإضاءة وإدارة الممثل. الإمكانات التقنية كانت شبه معدومة. المؤسسة قدمت لي موقع التصوير ليوم واحد، مع معدات الإضاءة التي اقتصرت على ضوئين فقط، لمدة محددة بالدوام الرسمي للفنيين. باقي المستلزمات، وهي كثيرة، تشاركت بجمعها مع زملائي في الدراسة، كما فعلنا معاً لإنجاز أفلامهم جميعاً.
أذكر عندما كنا في التصوير، وبينما نتحضر لأخذ مشهد في بهو السينما، وعيوننا متسمرة على شاشة الكاميرا الصغيرة، أُطفئت الأضواء فجأة. اعتقدنا أن خللاً قد حصل، أو أن التيار الكهربائي قد قطع، ليتبين أن الفني الذي يعمل معنا كان قد بدأ بتوضيب الإضاءة للرحيل في الساعة الواحدة والنصف مع شاحنة المؤسسة.

ما الذي دفع بك للاستناد إلى الفيلم القصير "بعيداً عن الوطن" للمخرج العراقي قيس الزبيدي؟ وما رؤيتك لهذه الأعمال السينمائية العربية المشتركة، على سبيل المثال لا الحصر، فيلم "الحياة اليومية في قرية سورية" (1974)، إخراج الراحل عمر أميرالاي ومونتاج قيس الزبيدي؟
أسباب عديدة بصراحة، كشعب سوري لا نستطيع فصل قضية فلسطين عن حياتنا الشخصية المباشرة، الألم تقاسمناه معنوياً قبل عام 2011، وبعده تقاسمنا آلام الجسد. فيلم "بعيداً عن الوطن" ليس عملاً يحكي عن مقتطفات من حياة أطفال فلسطينيين لاجئين في مخيمات الإيواء، هو محاول لملامسة المعاناة الإنسانية الممتدة أبعد من جغرافيا حدود فلسطين المعذبة، وأبعد من عام 1969، وأبعد من ثلاثة وخمسين عاماً إضافية بكثير.
ما بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، كان لمخرجين كبرهان علوية وتوفيق صالح وقيس الزبيدي، مع المخرجين السوريين كمحمد ملص وأسامة محمد وعمر أميرالاي وريمون بطرس ونبيل المالح، الدور الأهم في جوهرة شكل الفيلم السوري وانتشاله من شرك الأفلام التجارية الرائجة آنذاك، على مستوى الشكل والمضمون. تكمن أهمية الحياة اليومية في قرية سورية ربما ككل أعمال أميرالاي، في عبقرية المخرج في التقاط المعاناة الإنسانية وتخريجها بصيغة تهكمية تجعلك تريد الصراخ من الداخل.

للأطفال حضور واضح في أعمالك وسيناريوهاتك، خاصة مع المقاربة بين فايزة ونيسان. ما أبعاد هذا المشهد من الناحية البصرية؟ ما الرسالة التي تريدين إيصالها لابنتك نيسان عندما تكبر وتشاهد هذا الفيلم؟
الطفل هو الخلاصة السحرية لنتيجة مزج كل ما تحمله البيئة الحاضنة من معطيات، كتربية وعادات وأعراف وقيم، إنه حجر الزاوية لكل ما سيشيد في ما بعد. فايزة كانت مثالاً على آلاف الأطفال الذين كافحوا للنجاة من براثن الموت بشتى أشكاله. كانت تبحث عن الحياة، وها هي نجحت. ذكراها باقية في أذهان أولادها الذين هم أيضاً مجرد مثال. القضية بالنسبة لي تكمن في كيفية النجاة، فالمعاناة لدى الأطفال لا تشكل عائقاً لمواصلة الطريق المرسوم أصلاً، إنما ركيزة ينطلقون منها في خيارات لاحقة فردية وفريدة.
اللقطة الأخيرة في فيلم "بعيداً عن الزمن"، تُعلن انتصار الحياة بمعناها الروحاني. وجود فايزة الجسدي يحطم كل سلطان لأشكال الموت الذي نعانيه في دوامة أيامنا. لم تكن نيسان بشكل خاص، إنما الطفل التالي الذي عليه حمل هذه الحياة إلى أبعد ما يمكن، وإذا شاءت الظروف وكانت نيسان في هذا الفيلم بدور حامل للحياة، فأي رسالة أهم من هذه يمكن لي أن أقدمها؟

فيلمك سوري بكل تفاصيله. لكن المشكلة تكمن في الهوية السورية الفنية بحد ذاتها. ما رؤيتك لهذه الهوية السينمائية؟ وماذا طرأ عليها من تغييرات منذ بداياتها؟ هل تعتقدين أن عدم وجود هوية سينمائية سورية من حيث الشكل الفيلمي وليس الموضوع التجاري له علاقة بتنوع البيئات المحلية وتمايزها بعضها عن بعض؟
عند الحديث عن أي هوية، الشيء الأول الذي يتبادر إلى أذهاننا هي المرتكزات الأساسية التي كونت تلك الهوية. في حالة السينما السورية، هناك فقط بعض المرتكزات الأساسية والمهمة حقاً، أما كهوية سينمائية فالموضوع أشبه باستذكار أحد الموتى العزيزين على قلبك، وفي أفضل الأحوال المحتضرين أمام عينيك.
تحدثت في سؤالك السابق عن الأعمال المشتركة، عن أسماء مخرجين لهم أثر كبير في وضع حجر أساس لما كان سيسمى إذا استمر بالهوية السينمائية السورية. هذا المشروع توقف لأسباب عدة إلى أن توصلنا إلى مجموعة من الأفلام، ليست فقط تجارية، إنما مُتاجرة بأفكارنا وقضايانا وإنسانيتنا.
لا يمكن أن يكون تعدد البيئات عائقاً أمام تشكل هوية سينمائية موحدة، على العكس هذا الأمر يساعد في إغناء وصقل تلك الهوية، والسينما السوفييتية أكبر مثال على ذلك، ولتكوين سينما حقيقية سنحتاج إلى عدة معطيات، أولاً وجود قضية حقيقية، ثانياً طريقة معالجتها وهذا يتعلق بالتأهيل العلمي بشكل أساسي وبالموهبة بشكل جزئي، ثالثاً الحرية في طرح وتناول الفكرة، رابعاً التمويل، نحن كجيل ناشئ يحاول أن يتعلم صناعة هذا الفن، نمتلك شغفنا والنقطة الأولى فقط.

ما مشاريعك الفنية للمستقبل؟ وإذا افترضنا أنك حصلتِ على تمويل مفتوح وحرية تامة، ما العمل الذي ستنجزينه؟
سؤالٌ صعب (تضحك). أحلم بتصوير بضع دقائق سينمائية بمعدات احترافية لا أكثر. لكن وعلى سبيل المجاز، أريد تصوير عمل يجمع بين شعرية السينما الروسية وحساسية موجة السينما التشيكية الجديدة، وحيوية السينما الإيطالية، ومحلية السينما الإيرانية، وتجريد السينما السويدية بنكهة سورية، قد تكون استكمالاً لحجر أساس السينما السورية.

المساهمون