"شمس المستقبل": استنزاف إبداع أم إعلان شغف بالسينما؟

"شمس المستقبل": استنزاف إبداع أم إعلان شغف بالسينما؟

08 مايو 2024
"شمس المستقبل": أين البراعة السينمائية لناني موريتي؟ (فيسبوك)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في "شمس المستقبل"، يستكشف ناني موريتي الأخطاء التاريخية وأزمات الحاضر من خلال قصة داخل قصة، حيث يناقش جيوفاني (موريتي) الشيوعية وجرائم الاتحاد السوفيتي في 1956.
- يبرز الفيلم العلاقات المعقدة بين الشخصيات وتحديات صناعة السينما، مع التركيز على محاولات التعاقد مع "نتفليكس" لعرض الفيلم عالميًا، مما يعكس الصراع بين الفن والتجارة.
- ينتقد موريتي في الفيلم الاتجاهات الحالية في صناعة السينما، مشيرًا إلى مخاطر تحول السينما إلى مادة استهلاكية ومواجهته لتحديات الإبداع والتجديد في الفن السينمائي.

عاد الإيطالي ناني موريتي، في "شمس المستقبل" (2023)، إلى الماضي، لتناول أعطاب فيه، وتصحيح ما يجب تصحيحه بحسب تقديره السينمائي. محاولة يائسة وحالمة للتنصّل من تبعات الحاضر وأزماته الكثيرة والمتراكمة، والمهدِّدة لمنطلقات السينما التي عاش ويعيش لها.

"شمس المستقبل"، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/ أيار 2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي، فيلم داخل فيلم، أو استحضارٌ للسينما كصناعةٍ. هذا قالب شكلي، استعاره موريتي ليؤثّث أحداث فيلمه، بالرجوع إلى عام 1956، حين واجهت المجر الاتحاد السوفييتي، الذي ردّ بجرائم وقتل وتشريد. أراد المخرج جيوفاني (موريتي نفسه)، إنجاز فيلم نقدي لتلك الحقبة، عبر التغزّل بالشيوعية، ومحاولة عزلها وفكّ ارتباطها بالاتحاد السوفييتي، بقيادة ستالين، الذي يكرهه جيوفاني، مُظهراً ذلك في عزله والانتقاص من دوره، والقفز على أحداثٍ تاريخية.

كما صَوّر لحظات مهمّة، تحرّر فيها الحزب الشيوعي الإيطالي من الحزب الشيوعي السوفييتي. هذا في سياق زيارة فريق من السيرك المجري إلى روما قبل الانتفاضة، يفاجأ أعضاؤه بهجوم السوفييت على بلدهم. عندها، تحاول فيرا (باربورا بوبولوفا،) تحريض الحزب ليقف إلى جانب المجريين ضد السوفييت، لكن سكرتيره إنيو (سيلفيو أورلاندو)، يرفض، منتظراً الضوء الأخضر من قيادته العليا لإصدار بيان. ينشأ حبّ بينهما، متداخلٌ وغير مفهوم، لكنّه قوي ومُعبّر، يعكس عواطف مخرج الفيلم في فيلم جيوفاني، الذي تجمعه علاقة مضطربة مع زوجته باولا (مارغريتا باي)، منتجة فيلمه.

تعمل باولا على هجره، بعد 40 سنة على زواجهما. ابنته إيما (فالنتينا روماني)، تُغرَم برجلٍ يكبرها سنّاً، وتريد الزواج به. يُسجن المنتج الأساسي، الفرنسي بيار كامبو (ماثيو أمالريك)، الذي حاول عقد صفقة مع "نتفليكس" لشراء الفيلم وعرضه في أكثر من 190 دولة. هذه كلّها معطيات تحاصر جيوفاني، الواقف على فيلمٍ تُنتجه زوجته بشكل مستقلّ عنه، يتناول مشاهد عنيفة، رفضها وحاول إقناع مخرجها بضرورة تغييرها، لأنها غير مبرّرة، ولا تستند إلى معانٍ سامية. لذا، استحضر جهات وأسماء عدّة لتحليل المشهد وفهمه، وحاول الاتصال بمارتن سكورسيزي ليشرح له موقفه من المشهد.

روى موريتي قصّة متداخلة ومؤلمة ونقدية لما آل إليه المجتمع، وما وصلت إليه صناعته السينمائية، التي باتت المنصّات، كـ"نتفليكس"، تتحكّم بها وتسيطر عليها. عَكس مشهدٌ، يجمع جيوفاني بممثلين من المؤسّسة، فكرها وتوجّهها وطريقة عملها، وسعيها إلى جعل السينما مادة سريعة الاستهلاك، وتحويل دور المخرج إلى آلةٍ بلا معنى وتوجّه، لا يملك فيها رأياً أو فكراً أو توجّهاً فنياً.

هذه صرخة كبيرة وقوية أطلقها موريتي لإيقاظ العالم وتنبيهه إلى الصناعة السينمائية التي بدأت تتلاشى وتذهب إلى جهاتٍ غير أمينة، تعكسها آليات ترفيه عدّة، جاعلةً منها آلة ربح فقط لا تُقدّم شيئا للمجتمعات. آلة تجرّد السينما من فكرها وجمالياتها وأنفاسها النقيّة، فتُصبح جسداً بلا روح، يتحكّم فيه الربح المالي.

 

 

رغم محاولته إنجاز فيلمٍ يعكس شغفه بالسينما، لم يوفَّق موريتي في جوانب عدّة: غُيِّبَت آليات ونظم فنية تخلق اللغة السينمائية النقية وتسمو بها عالياً وتعطيها فنيّتها وفتنتها المطلوبتين، إذْ هناك حشو واضح في مَشاهد عدّة، واعتماد حوارات طويلة. هذا غيّب الصورة السينمائية الناطقة، وخلق مبالغات كثيرة قوّضت جهود المخرج، وأخرجت النصّ من السكة الحقيقية للتلقّي، كمشهد تدخل جيوفاني في عمل مخرج ثان لتغيير مشهد العنف، ففيه مبالغات غير مُبرّرة، كان يُمكن تناولها سريعاً، ما يقوّي فكرته النقدية ورؤيته الإخراجية. كما أظهر تفاصيل مملّة ومكرّرة ومُبالغ فيها، فانعكست المشكلة، التي نبَّه إليها، في مشهد موريتي نفسه، الذي أراد معالجة فكرة، فوقع في قلبها.

سلبيات أخرى جعلت الفيلم عادياً: استعارة موريتي قوالب سينمائية مُكرّسة، وجمل جاهزة، ومشاهد عادية. هناك إحساس بأنّ موريتي (شارك في كاتبة السيناريو مع فرانشيسكا مارتشيانو وفيديريكا بونتْريمولي وفاليا سانْتيلا)، ينحت في صخر، ولا يستمتع بما يقدّمه، فلا جديد سينمائياً في النص والشكل، والمشاهد غير نقية، لا تمنح جديداً. كرّر نفسه في مشاهد مأخوذة من فيلمين سابقين له: "مفكرتي العزيزة" (1993)، المتطابق معه حتى في الملصق، و"إبريل" (1998). هناك تقاطع مع "أمي" (2015)، وفيه نقدٌ لاذع لمظاهر سلبية باتت سائدة في الغرب.

هذه معطيات توحي بأنّ موريتي يستنزف طاقته الإبداعية، ويحاول العودة إلى مباهج السينما وأضوائها، لكنّه لم يستطع، لعجزه عن تقديم مواضيع جديدة تقطع مع الماضي وتقدّم لذّة ضرورية لمن يبحث عن الجديد. هذه مشكلة أساسية حاول مُداراتها باستحضار الكوميديا العبثية، وتمجيد الماضي، والتنبيه إلى مخاطر أفول الفنّ السينمائي. ورغم أنّها مواضيع جيّدة، أدخلتها طريقة المعالجة العادية والمصطنعة والمكرّرة في العاديّ.

رغم المطبّات الكثيرة، الفيلمُ معقول، وفيه جماليات عدّة، كالتمثيل. أداء موريتي دور جيوفاني بدا كأنّه يعكس فيه ذاته وشغفه بهذا الفن، فكان مُقنعاً وبسيطاً وغير مفتعل. مارغريتا باي تفاعلت مع الموضوع، وعكست دور الزوجة الراغبة في الخروج من دائرة رسمها لها زوجها، وتريد أنْ تستقلّ بذاتها وكيانها، ولو بعد 40 سنة زواج. الحماسة نفسها عكستها الممثلة باربورا بوبولوفا، بإظهارها بملامحها الساحرة دور ممثلة عنيدة، صاحبة منطلق نقدي ومجادل، فقطعت الصلة بين شخصية الفتاة الشيوعية في فيلم جيوفاني، وشخصيتها في "شمس المستقبل".

المساهمون