كثيرة هي الحوادث التي تحولت فيها الملاعب إلى ميادين حروب وقودها حماس الجمهور. جمهور يحمل من العبثية والغضب ما قد يشعل ساحات الملاعب في أي لحظة، ليتحول التشجيع من دافع معنوي إلى عنف ودموية. لكن ما الذي جعل ما حصل منذ سبعة عشر عاماً في ملعب The Palace، أكبر شجار في تاريخ كرة السلة الأميركية؟
يأخذنا المخرج الأميركي فلويد روس، في عمله الوثائقي "قصص غير محكية: شغب في الملعب" Untold: Malice at the Palace، للبحث في حيثيات الحادثة الشهيرة التي اندلعت في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2004، تحديداً قبل انتهاء مباراة الدوري الأميركي للمحترفين بين ناديي إنديانا بيسرز وديترويت، محاولاً وضع الأمور في نصابها، ونقاط اللاعبين على أحرف الصحافة المائعة، وإعادة استعراض وجهات نظر شهود ورياضيين ومشجعين وجوانب مختلفة، لحدث لم يمر مرور الكرام على الشارع الأميركي.
يطرح الفيلم سؤالاً عريضاً: ما حقيقة ما حدث؟ ما مدى واقعية ما تناقلته وسائل الإعلام؟
العمل من ضمن سلسلة "قصص غير محكية" Untold من إنتاج منصة نتفليكس، وهي تتناول خبايا عالم الرياضة الأميركية، وتروي في فيلمها الأول قصص نجوم نادي إنديانا بيسرز عبر متابعة مسارات صعودهم ومعاينة تفاصيل تدرجهم، بتطرق مقتضب إلى الوسط الاجتماعي الذي انطلقوا منه، على اعتبار أنه سرعان ما سيصبح طُعماً لاصطيادهم عبر الصحف والفضائيات الأميركية البيضاء.
بدأت الحادثة بمناوشة مفتعلة بين لاعبي ديترويت وإنديانا بيسرز، كان الهدف منها زيادة الحماس بين صفوف المشجعين. احتدم الشجار فجأًة، وسلك طريقاً لم يكن في الحسبان، لا سيما أن المنافسة بين الفريقين في أوجها. كان يمكن تجاوز الحادثة من دون أن تُحفظ في صفحات تاريخ الرياضة الأميركية خاصةً، لكن تدخل أحد مشجعي ديترويت صب الزيت على النار، إذ اعتدى الأخير على اللاعب رون أرتيست، ورشقه بزجاجة جعة، ما أفقد أرتيست صوابه، ليندفع بعدها ويقتحم صفوف المشجعين ويبرح المشجع ضرباً.
علق ريجي ميلر، أسطورة إنديانا بيسرز، آماله بالفوز على ديترويت، إذ كانت فرصته الأخيرة لتحقيق بطولة دوري المحترفين قبل اعتزاله. كان الفوز يشق طريقه إليهم، إذ قدم اللاعبون أداءً احترافياً عالياً في البداية، لكن ما حققوه ذهب أدراج الريح، وهرول الفوز بعيداً عنهم، بعد أن فقدوا صوابهم أمام صخب جمهور ديترويت المتعطش للفوز.
على خلفية الحادثة، أصدرت الرابطة الوطنية لكرة السلة الأميركية جملة من القرارات الصارمة التي غيرت المسار المهني لنجوم ناديي إنديانا بيسرز وديترويت، على رأسهم اللاعب رون أرتيست، إذ أوقف لست وثمانين مباراة في مدة هي الأطول عبر تاريخ الدوري الأميركي للمحترفين (NBA)، متجاوزاً الرقم القياسي السابق لتريل سبريويل، البالغ ثماني وستين مباراة.
لعبت وسائل الإعلام دور البطل المضاد في الفيلم، احتكرت بعنصرية رواية القصة، وتلقفت الحدث وتابعته مكرسة ساعات من بثها ومساحات في صحفها للحديث عنه، وإصدار تصريحات صادمة ظهرت خلال الفيلم. تعاونت الصحف البيضاء بشتى منابرها لوصم عقلية لاعبي إنديانا بالبلطجة، ما حسم الأمر حينها، وألقى بكامل المسؤولية على عاتق اللاعبين.
تجاوز رون أرتيست، المعروف حالياً باسم ميتا وورد بيس، حسب وسائل الإعلام، القانون الأول للألعاب الجماهيرية الذي ينص على عدم اختراق صفوف المشجعين، مهما كان حجم الإهانة التي يتعرض لها اللاعب، ليعلق جيرمين أونيل بسذاجة، مشيراً إلى أن تصدي اللاعبين لإهانات المشجعين النابعة من سخطهم، هو حق في الدفاع عن النفس كأي شخص آخر.
لأرتيست طباع متمردة ترفض المطاوعة. دفعته طبيعته الثورية الغاضبة وروحه القتالية نحو ملاعب كرة السلة لتفريغ شحناته الانفعالية العالية، بينما كان الشاب، ذو الموهبة الفريدة، جيرمين أونيل، يتحلى بهدوء أكبر، أسوةً بقدوته ريجي ميلر، ما جعل المنافسة بين الاثنين محتدمة، حتى دخل ستيف جاكسون الذي كان الجزء المفقود لتشكيل فريق مثالي، ما ساهم بخلق تآلف وتناغم وانسجام بينهما. للثلاثة طبائع مختلفة، وما جمعهم هو تأصل الثقافة الأفروأميركية غير المنتمية للطبقات العليا لهرم العنصرية الأميركية. لم يفوت الإعلام فرصة لوصمهم بصفات درج استخدامها للتلميح إلى الأميركيين السود عموماً، إحدى التهم اللافتة اليوم التي وجهها الإعلام نحوهم هي "محاولة فرض ثقافة الهيب هوب" على كرة السلة، عدا عن ألقاب تحمل في طياتها صوراً نمطية، مناشدين بحيادية مزعومة رابطة كرة السلة بتطهير صفوفها من اللاعبين الخارجين عن القانون.
يعتمد المخرج فلويد روس السرد القصصي للحادثة، ويستعرض عبر شريط يمتد لتسع وستين دقيقة قصة النادي مع لاعبيه، مانحاً المشاهد فرصة جديدة لمعاينة التفاصيل والحكم، ورسم صورة أكثر كمالاً من تلك التي عرضت حينها. التشويق متعمد عبر المونتاج الدقيق الذي أصاب في درامية نقلاته بين مشهد وآخر. الموسيقى أيضاً ساهمت بشكل كبير في التصعيد وإضفاء جو من الإثارة ضمن القالب التوثيقي الاستقصائي. ذهب روس فنياً إلى الأقصى باستخدامه قمصان اللاعبين مع أسمائهم لاستعراض محطات الفيلم.
نسند الفيلم سينمائياً إلى نوع التحقيق الصحافي المصور الذي واجه صحافة تقليدية عنصرية بيضاء، بكاميرا تبحث عن الحقيقة. يحسب لصناع العمل تسليط الضوء على جوانب مختلفة من الحادثة، كانت بحاجة لمساحة أكبر، عبر التقائهم بجميع من شارك في الحدث من مشجعين ولاعبين، وعناصر شرطة، وشهود، إضافة إلى كشف مقاطع مصورة ملتقطة بكاميرات أمن الملعب للمرة الأولى.
تبدلت مصائر اللاعبين. الوقت لم يكن كفيلاً بمحو آثار ما جرى. يتكشف جانب إنساني كبير يتجلى بمحاولة تبيان ما تركته الحادثة في نفوس اللاعبين، تنتهي قصة اللاعبين الثلاثة، أرتيست وجاكسون وأونيل، مع نادي إنديانا نهاية البطل التراجيدية. يتداعى أرتيست أمام الكاميرا بكلام حزين ممزوج بحكمة كهل عن رحلته مع العلاج النفسي، إثر معاناته من القلق والاكتئاب. ظل الإحباط يلاحق صديقه جاكسون، وحسب دوني والش رئيس الفريق، فإن أونيل، آخرهم، كان الخاسر الأكبر.
حقق أرتيست البطولة مع لوس أنجليس ليكرز، وانتقل جاكسون للعب مع سان أنطونيو، أخذ جيرمين على عاتقه حماية الفريق ما أثر على مسيرته سلباً، كان الفيلم استعادة لماضي أصدقاء لن يلتم شملهم بسبب غضب أفرزته عنصرية تاريخية وفهم للعدالة بشكل مبالغ فيه.