شادية في صوتها وصورها

07 يونيو 2023
عندما اعتزلت شادية السينما كان كاتب هذه السطور على مقاعد الجامعة (فيسبوك)
+ الخط -

تبدو الممثلة شادية (1931 - 2017)، أكثر من جميلة، على إغواء حي، وربما لا يعود ذلك إلى أنوثتها وحسب، بل لهشاشتها، فثمة شيء يُوحي بالضعف لكن ليس بالانكسار، بالبراءة لكن ليس بالسذاجة: براءة النظرات التي تُوحي ولا تقول. ثم هناك ذلك الغنج والخفة الطريفة، خصوصاً مع فريد الأطرش وصلاح ذو الفقار، وتلك السمعة المدوية بأنها دلوعة الشاشة، فإذا الوصف يلهث ليتطابق معها حتى عندما لا ينطبق.
عندما اعتزلت شادية السينما، كان كاتب هذه السطور على مقاعد الجامعة، وإذا كان له ولأبناء جيله أن يغرموا، فبنساء أخريات، مثل سعاد حسني أو ميرفت أمين وأورنيلا موتي وكيم باسينجر.
كانت شادية صوتاً جميلاً بالنسبة لذلك الجيل، أكثر من كونها صورة. كانت مغنية أكثر من كونها ممثلة، وظلت على نحو غامض في منتصف الطريق، فلا هي هند رستم ولا هي سعاد حسني. لا هي أم كلثوم ذات الحضور الطاغي والصوت المدهش، ولا هي نجاة الصغيرة.
ربما كانت أرستقراطية حضورها هي التي تكبح إمكانية أن تصل إلى المديات القصوى في الغناء والتمثيل، في أن تتجاوز تلك المنطقة الرمادية بين أن تكون جميلة ومغوية، فكان الإيحاء أداتها دوماً للوصول.
قدمت السينما المصرية اثنتين لهما حضور أرستقراطي: شادية وفاتن حمامة. لم تستطع حمامة التحرر من الظلال الطبقية الطاغية عندما أدت أدوار الفلاحة أو الخادمة. كان ثمة حاجز غير مرئي يحول دون اندماجها الكامل في الدور. ويُروى أنها قابلت طه حسين قبل إنتاج فيلم "دعاء الكروان"، المأخوذ عن رواية له بالاسم نفسه (الفيلم عام 1959 والرواية عام 1934)، وفي ظنها أنه سيفرح لأنها ستؤدي دور آمنة، لكن الأديب سخر من الفكرة نفسها، وسألها عما إذا كانت تستطيع فهم دور آمنة، فردت عليه بأنها فهمت جيداً، وخرجت من عنده وهي تبكي.
إذا صحت الرواية، ومرويات الصحافة المصرية فيها مبالغة وكثير من الخيال أحياناً، فإن الكاتب الضرير رأى ما رآه مبصرون لاحقاً، فثمة شيء ما، غامض، كان يجعل فاتن حمامة تبدع في مكان آخر، في تمثيل شخصيات من الطبقة الوسطى أكثر من الفقيرة. ربما نبرة صوتها المدهش، والفَرِح، وربما حاجز نفسي في داخلها.
المدهش أن ما عجزت فاتن حمامة عن الوصول إليه بَلَغَته شادية الأرستقراطية (وسعاد حسني بالتأكيد). والمدهش أكثر هو أن أهم أدوار شادية على الإطلاق كان عاملة الجنس، أو التي تُدفع إلى/أو يُراد لها أن تكون كذلك. والمفارقة اللافتة أن تؤدي هذه الأدوار في أربعة أفلام مأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ، وهي أربعة من ستة أفلام لها أُدرجت في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
وربما يكون من المفيد هنا أن نذكر أن نجيب محفوظ كان متشككاً في قدرة شادية على أداء دور حميدة في فيلم "زقاق المدق"، إلا أنه دُهش بأدائها عندما خرج الفيلم إلى النور، وقال إنه شعر للمرة الأولى يأن الشخصية التي رسمها على الورق نجحت في الخروج منه، وأصبحت حقيقية من لحم ودم تتحرك أمامه على الشاشة.
قامت شادية ببطولة أربعة أفلام مأخوذة عن روايات محفوظ: "اللص والكلاب" (1962)، تحت إدارة كمال الشيخ، و"زقاق المدق" (1963)، من إخراج حسن الإمام، و"الطريق" (1964)، من إخراج حسام الدين مصطفى، و"ميرامار" (1969)، من إخراج كمال الشيخ، إضافة إلى فيلم خامس كتب محفوظ قصته للسينما فقط، هو "ذات الوجهين" (1973)، وأخرجه حسام الدين مصطفى.

كيف تأتى لها أن تبدع في أداء تلك الشخصيات التي تناقض تماماً شخصيتها الحقيقية، ومعظم أدوارها، في أكثر من 110 أفلام، بل وتصل إلى المديات القصوى التي نادراً ما وصلتها في حياتها وفنها؟ ألذلك صلة باحتمالاتها؟ بالنصوص الأصلية الاستثنائية التي أُخذت منها تلك الشخصيات؟ لا يستطيع كاتب هذه السطور أن يجزم، ولكن من يستطيع أن ينسى حميدة أو نور أو كريمة، أو فؤادة في "شيء من الخوف"؟ علماً أن الأخير مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب ثروت عكاشة.

المساهمون