سَمَاهر القاضي توثِّق التحرّش: نصّ شفّاف وكاميرا حيوية وواقع مأزوم

15 مارس 2021
غرافيتي لميرا شحادة في "كما أريد" للقاضي (Prophecy Films، البرليناله 71)
+ الخط -

 

ثلاث سِيَر تُروى في "كما أريد" (إنتاج مشترك بين مصر وفرنسا والنروج وفلسطين وألمانيا، 2021، 88 دقيقة)، الوثائقي الجديد للفلسطينية سَمَاهر القاضي (برنامج "لقاءات"، الدورة الافتراضية لـ"مهرجان برلين السينمائي"، المُقامة بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021). يتداخل سردُ كلّ واحدة منها في الأخريين، بتوليفٍ (غلاديس جوجو) يُغذّي الفكرة الأصلية بجوانب بصرية، تكشف وقائع حالة مصرية تسبق اندلاع "ثورة 25 يناير" (2011)، وترافق محطّات عدّة منها؛ والحالة تلك معيشة في مدنٍ عربيّة أخرى، في ظلّ تربية اجتماعية ذكورية، يقول "كما أريد" إنّ التحرّر منها شبه مستحيل، بسبب ما يكشفه الواقع من شدّة إحكام قبضة موروثاته على مفاصل الحياة والعلاقات والوعي والتفكير.

"التحرّش الجنسي"، المباشر واللفظي، نواة نصٍّ (كتابة القاضي) يذهب بالكاميرا (القاضي وكريم الحكيم وRM) إلى تماسٍ مباشر معه (التحرّش)، إنْ عبر لقطات مُصوّرة لحظة ارتكابه؛ وإنْ عبر شهادات وأقوالٍ لشاباتٍ هنّ صديقات لمعتدى عليهنّ ومقرّبات منهنّ؛ وإنْ مواربةً، عبر سلوك ذكوريّ لشبابٍ ورجالٍ، يتفوّهون بألفاطٍ تنمّ عن عمق تلك التربيّة وذاك السلوك فيهم. لكنّ "كما أريد" ـ بقدر اهتمامه البصريّ بالتحرّش كفعلٍ لن يردعه انفضاضُ شعب على نُظم حاكمة، يُراد له (الانفضاض) تغييراً في التفكير والممارسة ـ يمنح الذاتيّ مساحةً تتكامل مع النصّ، وتتقاطع مع مفرداتٍ وتصرّفات وذكرياتٍ وخبرياتٍ مستلّة من ذاكرة المخرجة نفسها، ومن عيشها الآنيّ مع زوجٍ وولدين.

السِّيَر الثلاث تروي فصولاً من يوميات العيش في ثقافة عربيّة، تنكمش على نفسها، بدلاً من تكسير قيودٍ تحول دون التحرّر منها. الانكماش حاصلٌ رغم محاولات دائمة، فردية وجماعية، لتحطيم موروثٍ يستند، في جانبٍ أساسيّ منه، إلى تفسيراتٍ مختلفة لنصّ ديني أو لشكلٍ حياتي اجتماعي، يلتزمهما كثيرون. سِيرٌ ثلاث تتقاطع فيما بينها بسلاسة سينمائية وثائقية، يُوازن بينها تقطيعٌ يُمتِّن الحبكة بفروعٍ تتكامل معاً في سرديّة تسلّط ذكوريّ، يستمدّ سطوته من رغبات اجتماعٍ وتربية، وتُحصّنه (التسلّط) أهواءُ أنظمةٍ سياسية واقتصادية حاكمةٍ.

السِّيَر ثلاث موزّعة على سيرة التحرّش، المروية في لحظة تاريخية، مُحدّدة بالذكرى السنوية الثانية لـ"ثورة 25 يناير"، في ميدان التحرير (القاهرة)؛ والسيرة الذاتيّة لسَمَاهر القاضي، المولودة في بيئة فلسطينية محافظة، اجتماعياً وتربوياً وثقافياً، رغم فُسحةٍ صغيرة، لكنّها أساسية ومهمّة، يمنحها الوالد في لحظاتٍ عدّة؛ وسيرة أمٍّ (القاضي نفسها) في علاقتها بابنها البكر في مرحلة التحضير للانقلاب على حكم الرئيس الراحل محمد مرسي. فالأم مُقيمة وعائلتها في القاهرة، ومُراقِبَةٌ لمسار وتحوّلات وتغييرات، ومُشارِكَةٌ في مواجهات مع نظامٍ حاكمٍ، يتمرّد مصريون كثيرون عليه بدءاً من "25 يناير"، ومع ثقافة متشبّثة بيوميات عيشٍ وسلوكٍ، تتمثّل بنظرة "الذكر" (رجلاً أو شاباً) إلى المرأة، وبتصرّفه إزاءها.

سِيَر كهذه تبلغ ذروة قولها السينمائي، المتحرّر من الخطابية والتنظير والتصنّع، في عنوانٍ يؤكّد فحوى النصّ والعيش معاً: "كما أريد"، تقول سَمَاهر القاضي، وتنقله عن نساءٍ كثيراتٍ، بمتابعتها فصول حالاتٍ عدّة لهنّ ومعهنّ، تختزل (الحالات) مشهداً كاملاً بلغة حيّة وواقعية وصادقة. أحياناً، تكتفي الكاميرا بتسجيل ما يحصل، بحذافيره ومفرداته ومناخه، وما يحصل كافٍ لتبيان عمق الأزمة وخطرها: تجذّر الذكورية في عقلٍ يرتاح إلى سلطةٍ ممنوحة لصاحبه من موروثٍ، يُغذّيه نظامٌ حاكمٌ، تقبض عليه سلطة عسكرية، ترفض أي تغيير غير ملائم لنفوذها. وإذْ يبدو الموروث الثقافي الاجتماعي أساسياً ومتجذّراً في تلك الممارسة اليومية، بأشكالٍ مختلفة، فإنّ موقع المرأة في الاجتماع والثقافة والأعمال والحياة العامّة، رغم استثناءاتٍ مهمّة لكنْ غير متمكّنة لغاية اليوم من التحوّل إلى أساسيات، مُعرّض (الموقع) لشتّى أنواع المضايقات والتنمّر والحصار والمواجهة، وهذا ـ بمعنى ما ـ نوعٌ من أنواع التحرّش بكائن حيّ، أي بالمرأة.

كلامٌ كثيرٌ تقوله شابات "كما أريد"، وبينهنّ سَمَاهر القاضي. شابات ناشطات ومتورّطات فعلياً في التصدّي لتلك الثقافة الموروثة، وفي تحدّي رجالها مباشرة، إنْ قبل الثورة وبعدها، وإنْ في يومياتها المرتبكة. كلامٌ في السياسة ونظام الحكم ورئاسة الراحل محمد مرسي. المنطلق الوثائقي معقودٌ على حالات تحرّش جنسيّ في ميدان التحرير، لحظة الاحتفال بالذكرى السنوية الثانية لـ"ثورة 25 يناير"، المتزامنة مع رئاسة مرسي (30 يونيو/ حزيران 2012 ـ 3 يوليو/ تموز 2013)، المنتهية بانقلاب المؤسّسة العسكرية عليه، وتنصيب عبد الفتاح السيسي رئيساً لبلدٍ عاجزٍ عن تحويل المواجهة السلميّة إلى فعلٍ حياتي، لشدّة البطش والقمع والتغييب.

 

 

الاستعانة بتسجيل فيديو لحادثة الاعتداء العنيف على شابّة، جزءٌ أساسيّ من البناء الدرامي ـ الحكائيّ لـ"كما أريد". لقاءات مع صديقات وناشطات امتدادٌ عمليّ للمتابعة البصرية لأحوال الشارع، المنتفض مُجدّداً على مسائل تمسّ عيش الناس وهمومهم. إيلاء الجانب الشخصي الحميميّ استكمالٌ لسياقٍ أخلاقي ثقافي اجتماعي، تجعله القاضي ركناً لمزيدٍ من التفكير بجانب من تلك الأحوال نفسها، لتقول بمواربة إنّ الأزمة غير مرتبطة بلحظة واحدة، بل بسلوك جماعة تتشابه بين بيئات وبلدان متقاربة جغرافياً، ومتشابهة بالتزاماتها بموروثات مُسلَّم بها.

تختار سَمَاهر القاضي الذكرى السنوية الثانية لـ"ثورة 25 يناير" ركيزةً أساسية لالتقاط نبض شارع، وارتباك أناس، وغليان واقع، واضطراب رؤية، ورغبات في انفضاضٍ واستكمالٍ لمشروع تغيير بلدٍ واجتماعه وناسه، بل تغيير مفاهيم متحكّمة بعيشٍ يومي. الصراع السياسي يحتدم، والمؤسّسة العسكرية تجهد في إلغاء انتخاب محمد مرسي تمهيداً للانقلاب عليه. ممارسات تحصل، والتحرّش "أسهل" فعلٍ عدائيّ وعنفيّ يُمارسه رجلٌ بحقّ امرأة، لشعوره بسلطةٍ عليها، وبتمكّن فعليّ من النجاة من كلّ محاكمة حقيقية بسببه. أسئلة الشرطة، المطروحة على شاباتٍ يرافقن معتدى عليهنّ إلى مشفى، تكشف بخَفَرٍ شيئاً من تورّط بوليسي أمني عسكري في مسألة التحرّش الجنسي. احتجاجات مصريين كثيرين ضد محمد مرسي يستغلّها الجيش بعد تغذيتها للانقلاب عليه، لكنّ صوتاً أنثوياً هادئاً، يعاني خيبةً وقهراً إضافيين، يقول إنّ اللاحق على الانقلاب المذكور يُنذر بمآسٍ جديدة.

حميمية العلاقة القائمة بين سَمَاهر القاضي والكاميرا التوثيقية أساسيّة في كشف مدى شفافيتها، كامرأة وأمّ أساساً، أمام ذاتها وابنها. كأنّها تقول إنّ حَملها، الظاهر أمام عدسة الكاميرا، تأكيدٌ لاستمرارها في عيش حياة تصنعها هي كامرأة وأم، وإنْ بدا العالم أضيق، والحياة أكثر اختناقاً. الكاميرا بيدها في الشارع توثِّق كلّ تحرّش أو اعتداء. مواجهتها شاباً، يمارس تحرّشاً لفظياً عليها، تتساوى وتحدّيها عجوزاً يُعنّفها كلامياً ويُهدّدها بالضرب، والعجوز يشبه الشاب في خضوعٍ لموروثٍ طاغٍ، يُلغي المرأة ككائن حيّ مستقلّ (أبهذه الملابس تنزلين إلى الشارع؟ سؤال يُردّده البعض أمام كاميرا القاضي، وبين هذا البعض مراهقات ومراهقون تكشف القاضي بلقائهم المُصوّر أنّ الموروث أكثر تجذّراً من الظاهر والمتوقّع، وهذا مخيف).

من ذاكرة أهلٍ وخبريات عائلة ونمط حياة (فلسطين) قبل انتقالها إلى بلدٍ آخر (مصر)، إلى يوميات ذاك البلد الآخر في ذروة المواجهة الشعبية مع نظامٍ حاكمٍ، تسرد سمَاهر القاضي بعض جوانب عيشٍ وحكاياتٍ. التسجيل الأرشيفيّ، قديماً وحديثاً، يتساوى ورغبتها في تبيان مسارات وحميميات ومشتركاتٍ بين أوقاتٍ، ومفردات تربيةٍ وحياة. الذاتيّ، قديماً وحديثاً، ضروريّ لكونه عصب نصٍّ مفتوحٍ على حالة جماعية، والجماعيّ، قديماً وحديثاً أيضاً، يتعرّى أمام كاميرا صائبة في انتقاء الأخطر والأصدق في شارعٍ يعكس نفوساً وأرواحاً ووقائع.

المساهمون