سينما بلدٍ موعودٍ بالحرب

12 أكتوبر 2024
خلال تصوير "حروب صغيرة" لمارون بغدادي (مهرجان سان فرانسيسكو السينمائي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يتكرر في لبنان نمط من الصراعات يبدأ بمناوشات حدودية ويتطور إلى حروب مفتوحة، مما يتطلب فهماً عميقاً للجغرافيا اللبنانية وتاريخ الأحزاب والطوائف لفهم الديناميات المعقدة للصراع.

- السينما اللبنانية في الربع الأخير من القرن العشرين تميزت بتسليط الضوء على المعاناة البشرية الناجمة عن الحروب، مع التركيز على الطائفية والجغرافيا، مما يعكس الانتماءات الشخصية للمخرجين.

- هناك قلق دائم في السينما اللبنانية الحديثة بشأن المستقبل وتكرار الماضي المؤلم، مما يثير تساؤلات حول ما سيبقى للأجيال القادمة في ظل استمرار الصراعات.

تتكرّر الأحداث نفسها في لبنان. ننتقل من مرحلة مناوشات حدودية واشتباكات حامية، إلى بدايات حرب مفتوحة، جغرافياً وزمنياً، تُعيد إلى الأذهان ذكريات الحروب اللبنانية وأوجاعها، أكانت الحروب إسرائيلية أمْ أهلية. كأنّ لبنان يأبى أنْ يمرّ عليه، ولو لفترة، هدنة قصيرة، يلتقط فيها أنفاسه، ويُضمّد آثار جراح منذورة لتجدّد دائم. الحرب، المُطلّة برأسها الآن، يستحيل ألّا تستدعي صراعات ومعارك وحروباً، ظننّا أنّها انقضت أو تأجّلت، ولو لأجيال مقبلة. كانت إسرائيل الكلمة المفتاحية المشتركة في الحروب المعاصرة للبنان، وإن بشكل غير مباشر. تجلّى هذا في أفلامٍ، وثائقية تحديداً، رصدت ما جرى مع اندلاع الصراع الداخلي، وتفجّر الحرب الأهلية، مع انتصاف سبعينيات القرن الـ20.

في أغلب ما قُدِّم عن الحروب لم يُنجز إجمالاً كثيرٌ مُخصّص بحروب لبنانية مباشرة مع إسرائيل، أو مع اجتياحها لبنان، ومع غيرها من اشتباكات. مقارنةً بأفلامٍ عربية تناولت الصراع العربي الإسرائيلي، أو بغيرها من أفلام الحروب، تميّزت الأفلام اللبنانية دون سواها بسمات عدّة، إذْ أوغلت السينما اللبنانية، وقطعت أشواطاً بعيدة، في تسليط الضوء على المعاناة البشرية الناجمة عن الحرب بشكل مختلف، يراعي الطائفية والعشائرية والحزبية والمرجعية الدينية، وجغرافية المناطق. إنّها من التحدّيات والمفارقات غير المتكرّرة التي واجهها ولا يزال يواجهها مخرجون لبنانيون. فذكر الحرب ومعاركها يقترن دائماً بمنطقة جغرافية بعينها، وبطائفتها وعشيرتها، أو بالسلطة الباسطة نفوذها عليها.

من هنا، نجد أنّ متابعة الحروب اللبنانية، حتى تلك الحاصلة بين لبنان وإسرائيل، تستلزم لفهمها واستيعاب تفاصيلها، من بين أمور أخرى، دراية بجغرافيّة العاصمة (بيروت) وبمناطق تقسيمها. عليه، هناك ضرورة دائمة للاستعانة بالخرائط من ناحية، ومن ناحية أخرى، استدعاء تاريخ أحزاب وطوائف وقوميات، لإدراك التقسيمات، ومعرفة في أي جزء أنت. من يقاتل من؟ من يتمترس وأين؟ من يواجه العدو؟ أيّ مناطق اخْتُرِقت أو احتُلّت؟ كذلك، ليتسنى الوقوف على ردّات الفعل الداخلية، والتفاعل وفقاً لأهميّة المناطق وتوجّهاتها، ولجغرافيّتها وديمغرافيتها.

الوصف البسيط والمختصر الذي يختزل المدينة في كلمة بيروت لا يستقيم في الحالة اللبنانية. يبرز هذا سينمائياً في أفلامٍ كثيرة لمخرجين لبنانيين. مثلاً: لدى برهان علوية أكثر من فيلم يتناول الجنوب اللبناني. بينما يتمحور اشتغال مارون بغدادي في بيروت الغربية، وهكذا. ثم، ليس غريباً أنْ نلاحظ انعكاس التقسيم الجغرافي على التناول السينمائي نفسه. وأيضاً، صعوبة إخفاء كلّ فيلم لفكرة خاصة، نابعة من انتماء مخرجه وهويته، رغم حقيقية المطروح ومصداقيته وأمانته، والرغبة الصادقة الإجماعية في ضرورة تجنّب تكرار ما حدث، ونبذ بشاعة الماضي، والاصطفاف ضد عدوّ واحد مشترك.

يُلاحَظ أيضاً، في غالبية الأفلام السينمائية اللبنانية، في الربع الأخير من القرن الـ20، الحضور الدائم للماضي، والانشغال بثقله الجاثم على الحاضر، والخطر من تكرار الماضي بتعقيداته وأخطائه، وجرّ البلد ومستقبله إلى حلقة مفرغة، لا سبيل للخروج منها. كذلك فإنّ عدم النسيان، ومساءلة الماضي بجرأة، وفتح الجراح، والاشتباك الحادّ والصادق مع أغلب المسكوت عنه، قد تكون كلّها من أهم مميّزات السينما اللبنانية، الروائية والوثائقية. هذه علامة دالّة بصدق على أن هناك شعباً حيّاً، لديه وعي ورغبة في عدم تكرار ما حدث، والتعلّم من دروس الماضي. لكنْ، يبدو أنّ القدر وتكرار الأخطاء وتغليب الأهواء تقف بالمرصاد أمام هذه الرغبات، مُجبِرةً الجميع على الدخول في معاناة تلو أخرى، ما يُعجِزُ أيّ سينمائي لبناني، مهما بلغت موهبته، عن التكهّن بمداها واستشراف أفقها، والإحاطة بمدى دمارها وخرابها.

سينما ودراما
التحديثات الحية

أمرٌ آخر لافت للانتباه في سياق السينما اللبنانية الحديثة، الملموس أكثر في أفلام أجيال جديدة، كامنٌ في الهاجس الدائم بالمستقبل، والخشية من انهيار كلّ شيءٍ، وتكرار ما حدث في الماضي، ولا سيما أنّ هناك دلالات كثيرة ملموسة، تشير إلى تكراره. هاجس تُغذّيه الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، وجغرافيا حدودية قادرة على قلب كلّ شيء وتغييره وإفساده، إلى درجة تستدعي تخوّفات مارون بغدادي وتساؤلاته في "حرب على الحرب" (1983)، عن الأجيال المقبلة وما سيبقى لها، وما سترثه، وماذا بعد تحطّم أحلامها ورؤيتها. تساؤلات لا تزال مُعلّقة إلى الآن، وربما إلى أجيال مقبلة، ومن دون إجابات، ما دام هناك وجود إسرائيلي، وتركيبة ديمغرافية، وعقلية براغماتية قائمة.

أمّا أبشع الأمور، العاكسة واقعاً لبنانياً فريداً سينمائياً، ويبرز أكثر في سياق الاشتغال السينمائي على الحروب، أنّه يصعب جداً فصل المخرج، مهما كانت حياديته وتجرّده وإنصافه وإخلاصه وصدقه، عن انتمائه الديني أو الحزبي أو الطائفي، أو عن منطقته وماضيه. وباختصار: تصنيفه، وإنْ تمحور عمله حول الفرد اللبناني، ومصيره الإنساني، كشخصية عادية تُحيل إلى ماضي بلدٍ أو واقعه أو تحوّلاته، والبلد غارقٌ في دوّامة حروب كبيرة. في السياق اللبناني نفسه، يصعب الفصل/القطع، في حالات غير قليلة، بأنْ تكون الأفلام المنجزة مرآة صادقة للواقع والحاصل، ومُجرّدة من أهواء شخصية، أو وجهات نظر، أو أمزجة تُعلي السياسي أو الحزبي، وتتمترس من دون وعي، أو عن قصد، وراء آراء حزب أو جماعة أو انتماء طبقي ـ عشائري.

الآن، تتجدّد الحرب بوتيرة أسرع وأقسى، كما يبدو. لكنّها ستنقضي لا محالة كغيرها، مهما طالت. المؤكّد أنّها ستُبقي اللبناني في خضمّ تساؤلات، تضاف إلى أخرى مُعلّقة من الماضي، ستتناولها السينما اللبنانية وترصدها وتشتبك معها بكلّ جرأة وشجاعة. لكنْ، إلى حينه، تُطرح تساؤلات: أهذه آخر الحروب؟ إنْ لم تكن هكذا، فمتى؟ والأهمّ والأصعب: هل سينجم عنها، أو يتلوها، تجدّد حروب صغيرة، يُفجّرها دائماً الكيان الإسرائيلي المسعور؟

المساهمون