في "أشباح بيروت" (1998)، للمخرج اللبناني غسان سلهب، المعروضة نسخة مُرمّمة منه في إطار العروض الخاصة للدورة الـ20 (24 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 2 ديسمبر/ كانون الأول 2023) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، يقول أحمد علي الزين، في أحد أجمل مقاطع الفيلم وأكثرها تأثيراً، بعد أنْ عبّر عن شعوره بأنّ الوقت لا يزال باكراً لهضم ما يمور فيه من أحاسيس، جرّاء الحرب الأهلية التي دارت رحاها في لبنان: "الحرب لم تخرّب البنايات فقط، بل خرّبتنا من الداخل أيضاً. كانت هناك مشاعر وأعصاب وأحلام في طور التكوّن في دواخلنا، قُصِفت واغتيلت أيضاً. ربما نشبه من الداخل، نحن الجيل الذي عاش هذه الفترة، تلك البنايات المُصدّعة التي لم تُجرف بعد. لكنّنا نحاول ترميم دواخلنا، لنكمل بقية العمر".
الكلمة المفتاح هنا، الترميم. ولعلّ ما يجري اليوم من تدمير منهجي للبنايات والأرواح، قتلاً وإرهاباً تقودهما آلة الحرب الإسرائيلية الهوجاء، في حقّ مواطني غزّة والضفة الأبرياء، يستدعي التفكير في كيفية ترميم ما دُمّر من أرواح وأعصاب وبنايات. في كلّ مواطن فلسطيني بنايات من المشاعر والأعصاب والأحلام تعرّضت لتخريب ممنهج، تقف وراءه منظومة إرهابية، برعاية دولة احتلال وتفرقة عنصرية. كيف يا ترى نجعل من السينما وسيلة لترميم الأرواح، وإعادة تركيب شظايا ما تشظّى في الأماكن والذاكرات؟
"أشباح بيروت" يحمل في ثناياه، ربما، عناصر إجابة ممكنة؛ الخلط بين الوثائقي والتخييل، للقبض على وضعية عصيبة ومعقّدة؛ الشخصيات التي تظهر وتختفي كناية عن عجز مُطبق عن الاستمرار في حياة "طبيعية" بعد كلّ ما جرى، فتبدو كأطياف تجوب ذاكرة الأماكن والأشخاص بحثاً عن خلاص، فلا يزيدها الاجتماع في ما بينها، وإعادة الوصل مع الحارات والمنازل، سوى تغرّباً على تغرّب؛ الحوار، الذي ينزع إلى التّراكب "الغوداري" المُفعم بالانزياح، سعياً إلى قول شيء ما حول ما ينفلت من لغة الكلام؛ السخرية السوداء لالتقاط مفارقات عبثية تعبّر عن ترسّبات الحرب في ثنايا الحياة اليومية، كاجتياز حاجز مرور، أو حجز غرفة في فندق.
أما المخرج العراقي مهنّد حيال، فيجد في تكثيف عناصر الزمان والمكان، في "شارع حيفا" (2019)، وسيلة لقول ما يختلج في النفوس الموبوءة بترسّبات الحرب الطائفية، الناتجة عن الاحتلال الأميركي للعراق، من خلال قصة قنّاص يتلذّذ بتعذيب ضحية، تربطه معها صراعات معقّدة، تعكس وضعية النسيج المجتمعي في العراق.
زمن الحكي، المقترب من زمن وقوع الأحداث، إضافة إلى جمالية الترقّب التي تهفو وتترقّب لها النفوس، قبل أنْ يفرّغها المخرج من كل إثارة مفتعلة، ولا يتبقّى سوى إحساس عبثي، يبدو على ضوئه الإنسان ذئباً في مواجهة أخيه الإنسان، ويصبح شارع حيفا، الذي يمنح الفيلم عنوانه، مكاناً استعارياً مُغلقاً على انفتاحه. اختيار وحدة المكان قوي وجريء، لأنه يعكس ـ بمظاهر الخراب البادية في كلّ أرجائه، والجثث المتعفّنة في أنحائه التي لا يجرؤ على لمسها، والجريح المُسجى في وسطه من دون أنْ يقدر أحد على إغاثته خوفاً من رصاص القناص ـ مأزق بلد يتخبّط في حرب عبثية.
صحيحٌ أنّ الاحتلال أشعل نارها الأولى، لكنّ سعيرها يؤجّجه عراقيون. الجميع خاسرون ومحطّمون وتائهون في "شارع حيفا". حتى القنّاص، الذي يبدو ممسكاً بزمام الأمور، يحمل في داخله ركام ترسّبات، يبدو في ظلّها ضحيّةً لنفسه، بالمقدار نفسه الذي يحضر به كوحش للآخرين.
في "يوم أضعت ظلّي" (2018)، تنحو المخرجة السورية سؤدد كعدان إلى تنويعة أخرى حول فكرة الشبحية، للإجابة عن سؤال قدرة السينما على لملمة مظاهر الشتات الظاهر في الأماكن والنفوس، فقدان الظلّ تعبيراً عن المأساة الإنسانية، الذي نتج عن الحرب السورية ما بعد ثورة الربيع العربي. بسبب القرب الزمني مع الأحداث، لم تمتلك المخرجة مسافة كافية للانزياح بالسخرية أو العبثية، فنحت إلى تكثيف الوجع الحاضر في نفوس السوريين بصورة بلاغية مُعبّرة: فقدان الظّل. الأجساد، من دون ظلال، التي تجوب مظاهر الخراب في ضواحي دمشق، تحت أنظار سناء (سوسن أرشيد)، التي تبحث عن أنبوبة غاز كي تحضّر وجبة دافئة لابنها، ليست سوى استعارة بليغة عن تيهان وفقدان معالم، يعكسان خراب أرواح يحاكي الدمار الذي أصاب البنايات والتجهيزات، فأضحت تلبية مطلب بسيط (الحصول على أنبوبة غاز) شيئاً عزيزاً ونادراً، يستدعي التضحية والمغامرة بالحياة.
استعانت كعدان بجمالية الكاميرا المُقرّبة، والكادرات الخانقة، والإطار داخل الإطار (نوافذ، أبواب، إلخ...)، إضافة إلى أجواء الإضاءة المعتمة، للتعبير عن حالة نفسية ووجدانية مركّبة، يختلط فيها الأمل المجهض حديثاً (أحداث الفيلم تقع عام 2012) بحالة تيه روحاني، عاجز عن استيعاب ما يجري، فيبدو متجاوزاً كمن يركض وراء ظلّ مفقود، ويغدو البحث عن أنبوبة غاز إشارة بليغة إلى حاجة مستعجلة وآنية لفسحة عيش ونفس، تُمكّن من استمرار الحياة وسط مظاهر الموت المحدق، والدمار المحيط.
تقول سؤدد كعدان إنّها استلهمت فكرة الظلال من الظاهرة العلمية المعروفة بـ"الظلال النوويّة" التي حدثت عند ضرب هيروشيما بالقنبلة النووية، في الحرب العالميّة الثانية، فأودت بأبدان اليابانيين، وأبقت على آثارهم في شوارع المدينة المدمّرة على شكل ظلال، تشهد على هول ما جرى.
في "هيروشيما حبيبتي" (1959، سيناريو مارغريت دوراس)، يمزج المخرج الفرنسي آلان رينيه بين جغرافية مدينة وصدمة حدث تاريخي جلل. مهندس ياباني يتعرّف إلى ممثلة فرنسية، يجولان أرجاء المدينة، ويحاول كل واحد منهما الاقتراب من الآخر، لكنّ كَبْت المهندس الياباني جرح الذاكرة، المرتبط بدمار هيروشيما، في داخله، على شكل انفصالي عاطفي مع الواقع، لا ينفكّ يُباعد بينهما.
مثل أحمد علي الزين، يحمل الياباني خراب المدينة في داخله، فلا يقدر على الاقتراب من محبوبته. علاقة تتواجه فيها نزعتا الموت والحب، إيروس وتاناتوس. تعبير "أنت تقتلني. أنت تجعلني أشعر بالسعادة"، أبرز مُعبّر عن هذا التوجّه.
تشير بعض التقارير إلى أنّ أكثر من 60 في المائة من المباني في غزّة تعّرضت للدمار، حتّى أنّ بعضها يشير إلى أنّ الدمار المحدث يوازي مفعول ربع قنبلة نووية. يحلو لنا أنْ نقول، استلهاماً من قولة المهندس الياباني الشهيرة: "لم تروا شيئاً في غزّة".