سينمائية المكان في كازابلانكا: مدخل إلى تأريخ صناعة الأفلام المغربية

19 يوليو 2023
انغريد برغمان وهمفري بوغارت في "كازابلانكا": المدينة نافذة للخلاص (Getty)
+ الخط -

 

كازابلانكا مدينة مثالية للسينما. كانت وكر جواسيس في زمن استعمار المغرب، وصارت، في زمن الاستقلال، ملجأ فلاحين، ينتقلون من اقتصاد الهبة إلى اقتصاد "خذ وهات"، فيتبرجزون.

في الحالة الأولى، احتلّ الألمان باريس، وصار الغستابو يتحكّم بكازابلانكا. مع ذلك، بقيت المدينة ملاذاً لمناهضي النازية، ونافذة لهم على المحيط الأطلسي، للهرب إلى نيويورك، كما في "كازابلانكا" (1942) لمايكل كورتيز، الذي يُبرز زوجة فاتنة مستعدّة لإرضاء نزوات ضابط فرنسي فاسد لتحقّق حلم زوجها بالحصول على فيزا إلى أميركا. الفيلم مفخرة لأميركا لا لفرنسا. هكذا تمّت، في الفيلم، موقعة الحدث في مكان ذي مردودية درامية. الحكاية ابنة المكان الذي تجري فيه. تنبع الحبكة من المكان. كي نروي حكاية، يجب غرسها في مكان يؤثّر فيها، وتؤثّر فيه. "نحتاج إلى سياق لتشغيل الصورة. سياق يمكن لامتداداته أنْ تتنوّع" (مجموعة مو، "بحث في العلامة المرئية من أجل بلاغة الصورة"، ص 75). تمّ تجذير حياة الشخصية في المكان.

يمجّد "كازابلانكا" الحلم الأميركي، لأن مخرجه من روّاد الدعاية في هوليوود، في الحرب العالمية الثانية، بحسب تايلور فيليب في "قصف العقول" (ص 237). لزيادة وقع الفيلم وأثره العاطفي، ظهر همفري بوغارت رومانسياً، بينما هو معتاد على تأدية أدوار رجل العصابات.

في الحالة الثانية، تحتلّ كازابلانكا المساحة المكانية الأكثر حضوراً في الأفلام المغربية. ينقسم المكان في الفيلم المغربي إلى بادية ومدينة. هناك الدار البيضاء، وهناك باقي المغرب. الرابط بينهما حافلة مكتظة، دلالة على الهجرة القروية، وعلى الفرار من الحقل.

ما الأماكن التي تتميّز في الدراما العالية؟

احتلّ الجبل موقعاً مركزياً في السرد القديم، شفوياً وكتابياً. كان الجبل مكاناً مركزياً في السرد الديني، ومَطهراً فيه مغارة عزلة وتعبّد. ثم صارت المدينة فضاء المتعة في السرد الروائي والسينمائي. المدن الكبيرة مقابل مُعاصر للغابة وقانونها. هذه صورة كازابلانكا في "كازانيغرا" (2008) للمغربي نور الدين لخماري، الذي عكَس اسم المدينة من الدار البيضاء إلى الدار الكحلاء. كانت شوارع كازابلانكا ديكوراً درامياً، لا تزيينياً.

كان الجبل مُقدّساً، يتحدّث فيه الربّ إلى نبيّه. بحسب يودي لوتمان، "لم تكن الجغرافيا في العصور الوسطى تعالج بصفتها تخصّصاً علمياً، بل بصفتها فرعاً للأوتوبيا الدينية" ("سيمياء الكون"، ص. 134 ـ 135). كان المكان عمودياً. الإنسان في الأرض وعينه إلى السماء حيث الجنة. تغيّر الوضع، وصار المكان أفقياً. "زلزل القرن الـ20 الإحساس بالمكان، ونمّى الإحساس بالاغتراب" (بينيت طوني وآخرون، "مفاتيح اصطلاحية جديدة"، ص 651). تبدأ دراما الاغتراب في كازابلانكا من توزيع المكان. حالياً، يعيش 5 ملايين شخص في نصف المدينة، في عمارات مزدحمة، بينما يعيش نحو 200 ألف شخص في النصف الباقي منها، في فيلات واسعة.

هذا عنف مجالي بنيوي. يفترض الفرد البدوي مثلي أنّ العنف فعل استثنائي. هنا، العنف عملة يومية، وعنصر حاسم في الصراعات، وفي حسابات الربح والخسارة. ينحفر في وجداني حذرٌ عريق.

بينما كنت أصوّر فيلماً قصيراً في حيّ شعبي، عام 2021، وأواجه صعوبات في تنظيم العمل، تطوّعت ممثلة لتشرح لي فوائد تغيير المكان بهدف التصوير في مكان واسع ومضاء، لا زحام فيه. شرحت لها أنّ مكاناً هذه مواصفاته سيكون أقلّ درامية، وستفقد قصة الفيلم معناها. المكان في الفيلم ساحة معركة للحبكة. أصرّت الممثلة الغاضبة على أنّ كلّ الأمكنة تتشابه. طال النقاش. قلت: "يؤدّي التجاور والزحام في مكان ضيق إلى صراع شديد". لم تقتنع. فجأة، سألتها: كم من مرحاض عندكم في البيت؟ لم تستطع الإجابة. كانت تسكن في فيلا، ولم تجرّب قط الإقامة في شقة صغيرة، فيها مرحاض واحد، يجب انتظار الدور لاستخدامه. لو عاشت هنا، لعرفت معنى درامية المكان، من ضغط لحظة الانتظار في مكان ضيق.

 

 

يعيش المهاجرون الجدد إلى كازبلانكا في الزحام. من هنا، تبصم المدينة الغول على تحوّل قيميّ لدى المهاجر. قيمياً، يُصنّف الكدح والادخار كحِكمة في البادية، بينما يُصنّف الاستمتاع والاستهلاك في المدينة الكبيرة كتعبير عن التفوّق. كما ترمز المدينة لوعد الجنة، ثم للعنف. هذا يُبرّر تحذير أْغنية الحسين السلاوي للواصلين الجدد إلى المدينة: "حضي راسك يا فلان". من هذا المكان، تتأسّس حبكة كبرى: تتكرّر في السينما المغربية تيمة التمرّد والانسلاخ عن القرية، وفيها اقتصاد محدود، والهجرة إلى المدينة. التمرّد على الأسرة الأبوية التقليدية ـ الفردانية. تتكرّر تيمة صراع الأجيال.

خارج المكان، خارج الزمان، هناك العدم. ليس لدى الكاميرا ما تلتقطه. المكان مدخل إلى تأريخ السينما المغربية. بدأ عقد سبعينيات القرن الـ20 بـ"وشمة" (1970) لحميد بناني، وانتهى بـ"أليام أليام" (1979) لأحمد المعنوني. كلاهما يتتبّعان شابين راعيين في فضاء بدوي. عام 1990، تغيّر المكان في معظم الأفلام المغربية، التي صارت تجري في المدينة. تمّ الانتقال من تصوير الهجرة القروية، إلى تصوير النتائج الاجتماعية لتزايد الهجرة والتمدن. للإشارة: تأسّست السينما المغربية بفضل جهود المخرج محمد عصفور، الذي نزح من البادية إلى الدار البيضاء، بحسب الفيلم الوثائقي الذي أعدّته عنه "قناة الجزيرة" (https://youtu.be/XX96jq69AG4).

تغيّر التوطين المكاني للشخصيات معيار حاسم. يَعتبر يوري لوتمان "أنّ فهم الفضاء الجغرافي من الوسائل الأساسية التي يُنمْذَج بها الذهن البشري في الفضاء" ("الفضاءات الرمزية"، ص 131). حدثت نقلة مكانية ورمزية في فضاء الفيلم المغربي. لهذا تبعات على خصائص الشخصيات. انتقلت أحداث الأفلام من البادية إلى المدينة، حيث يجري "حبّ في الدار البيضاء" (1991) لعبد القادر لقطع. تعيش سلوى (منى فتو) حبّاً مائلاً في كازابلانكا ـ الدار البيضاء.

يجري هذا الحبّ في شقق على الشواطئ، حيث يحصل على نسمة حرية. للمكان قانونه. في المكان الجديد، حوافز جديدة. تكسّرت تابوهات الحبّ بفضل شجاعة شابة طموحة ومتحرّرة، في مجتمع مُصاب بالانفصام، حين يتعلّق الأمر بالعلاقات الرضائية.

في مثل هذه الحالة، كلّ فرد يمنع على غيره ما يُبيحه لنفسه. في المدينة الكبيرة، يضطرّ كلّ فرد إلى الانشغال بشؤونه، فيترك الآخرين بسلام.

المساهمون