حافلةٌ عتيقة تتهادى بركّابها على أرضٍ وعرة. أشخاص ربما ترافقوا فيها مرّات، مُثقلون بملابس سميكة. قرويون على حافة الفقر. في الخارج، تتراءى أشجار عارية، تنبئ عن فصلٍ بارد. لقطاتٌ، برماديّتها المشوبة بزرقة شاحبة، تضفي على الجوّ مزيداً من برودة. يترجل أناتولي (أداء رائع لألكسندر ماكسياكوف) على حافة الطريق، ليخوض في دروب موحلة، قبل وصوله إلى وجهته. إنّه عائد إلى قريته، ليُرافق أمّاً تحتضر.
من لقطاته الأولى، يعلن "سهوب (ستبْنا)" عن هويته، وعن أمكنته وشخصياته وإيقاعه. كآبة، يركن إليها المشاهد مأخوذاً بجمالية مؤثرة وشاعرية حزينة لصُوَر، كأنّها مقبلة من عصر ولّى، قريب بعيد.
في "سهوب" (2023) ـ المعروض في برنامج "الاختيار الرسمي ـ خارج المسابقة"، في الدورةالـ6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ ترجع الأوكرانية مارينا فرودا إلى وطنها. تُصوّر، في عقدٍ من الزمن قبل اندلاع الحرب، أوّل فيلمٍ روائي، مشغول بحِرفية عالية، تُميّز سينما أوروبا الشرقية. لفتت الأنظار إليها في الدورة الـ64 (11 ـ 22 مايو/أيار 2011) لمهرجان "كانّ"، بنيلها السعفة الذهبية عن فيلمها القصير "عبور بلاد"؛ و"السهوب" معروضٌ سابقاً في المسابقة الرسمية للدورة الـ76 (2 ـ 12 أغسطس/آب 2023) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي".
اختارت فرودا (1982) قرية نائية، بعيداً من الحروب. بحثت عنها طويلاً لتجعلها ركناً محورياً في فيلمها. مكانٌ يشكّل، بحدّ ذاته، شخصية، شهدت أفعالاً ونظرات وهمسات، تُضارع في أهميتها أناتولي وعائلته، والسكّان العجائز المنزوين الذين يتلاشون واحداً تلو آخر، مُحمَّلين بذكريات، وحاملين ماضياً يزول معهم شيئاً فشيئاً. إنّهم جيل الأجداد والآباء، الجيل الصامت كما تصفه فرودا، وتحاول أن تُنْطِقه وتُسائله عن ماضيه السوفييتي. في هذا المكان، أمٌّ تحتضر، كما يحتضر زمنٌ وتقاليد. إليه، يعود أناتولي في رحلة رثائية، يلتقي فيها بماضيه الخاصّ، وبحبّ قديم لآنيا (رادميلا شتسوغولييفا)، الباقية في أرضٍ لم تغادرها كما فعل كثيرون. ماضٍ يتقاطع مع بلد وناس عاشوا وشهدوا حروباً ومجاعات، منعزلين فيه بصمتٍ مع ذكرياتهم، والمسكوت عنه. بين أناتولي وأمه، علاقة تسودها حنيّة واستعادات: هي بذاكرةٍ تتأرجح بين حضور وغياب، وهو بمحاولة تعويض عن غياب دام طويلاً.
في "السهوب"، تنوّعٌ في علاقات مُعقّدة مليئة بحنان ومواجهات في صمتها الكثير. من حبّ المُراهَقة بين أناتولي وآنيا، التي ظلّت ترعى أمه رغم زواجها، إلى المواجهة مع الأخ الأكبر، العاطفي وغامض النوايا والأشغال، والعائد متأخّراً كالعادة (بعد رحيل الأم)، مروراً بأهل القرية. لقاءات في الحاضر عن ماضٍ وأسرار عائلية ومجتمعية، تثري الفيلم.
نظرة إخراجية تمسّ بأسلوبها عمق الأشياء والأشخاص، وتتغذّى من اعترافات سكّان اعتادوا الصمت. تعود فرودا إلى الماضي لفهم الحاضر. تستعين بأهل قرية معدودين، للتعبير عن جيل كامل سَكت طويلاً، ولم ينقل إلى جيل الأبناء تجارب معيشة. جاء هؤلاء بكلّ إخلاص وتضامن، ليودّعوا واحدة منهم الوداع الأخير. انفتحوا وحكوا. هم، وإنْ لم ينقلوا مشاعرهم وتاريخهم شفهياً في السابق، تناقلوا تراثاً وأسلوب عيش ومجابهة أحداث بطريقتهم الخاصة.
إرثٌ تجسّد في عمل شاق في الأرض، ومحاولات تغلّب على طبيعة قاسية، وسعي إلى تأقلم مع ظروف صعبة، بصبر على فقر لم يقف عائقاً أمام عيش وتكافل بعضهم مع بعض. إرثٌ ينقله "السهوب" من دون كلام كثير أيضاً. يجاري شخصياته في صمتهم وبوحهم القليل، مكتفياً بنظرة أو كلمة أو حركة بسيطة، تتبدّى في تأمّل الطبيعة، أو وقوف مع جار فَقَد للتوّ أمّه. تتجلّى خصالهم وعطاؤهم في مشهد العشاء الأخير، بعد الوفاة، حين تنطلق الألسنة بترددٍ وخجل. أمام الموت، تنكشف أعماق أناس وما شكّل لهم العيش في هذا المكان، أكانوا منه أم قدموا إليه. تعترف عجوز، للمرة الأولى، أنّها روسيّة، لكنّ حياتها كانت دائماً هنا. جملة فقط، لكنّها تحمل الكثير. حركة الكاميرا تسجّل بدقّة تعابير القرويّين، وتلتقط إيماءاتهم وطرافة بعضهم، وتقف على وجوههم أحياناً عند بوحهم وصمتهم، تساعدها إضاءة خافتة بالشموع، تضفي أجواءً حميمة وشجناً. كأنّها مشاعر صاحبة العمل، تنقلها بإضاءة عابرة للوجوه والأغراض والمكان بمجمله، ليبدو المشهد كأنّه لوحة من القرن الـ16 للفنان الإيطالي كارافاجيو.
مع هذا البوح لخليطٍ من ممثلين وغير ممثلين من القرية، تبدو وثائقية الفيلم (عملت فرودا سابقاً مع الأوكراني سيرغي لوزنيتسا) في تسجيله نمط حياة وأشخاصاً وطريقة عيش ربما تختفي إلى الأبد، لكنّه مُحمّل بمشاعر ورؤية حميمة منحازة إلى هذا العيش، وإلى هؤلاء الناس.
عند تفريغ المنزل، كأنّه بلد يُفرَّغ من ذاكرته ويشتّتها، تتبعثر أشياؤه وذكرياته، يُرمى بعضها ويُحتفظ ببعضٍ آخر. يتقاسمها أهل القرية كأنّهم يتقاسمون مصائرهم، وبحفظهم إياها يبدون كأنّهم يحافظون على بقايا ذكرى. لكنْ، إلى متى ستسلم تلك؟ حتى الأرض لن تسلم، وسيستغلها متنفّذون جدد، مُستعدّون لاستغلال كلّ شبر لأغراض أخرى أكثر مردودية من الزراعة، وأقلّ مشقّة. في لقاءٍ جمع أناتولي وشقيقه مع راعي الطبقة الجديدة، التي تمثّل العالم الجديد المقبل، للاتفاق على بيع الأرض، يخرج "السهوب"، بالحوار بينهم، من حزن استُؤنس به، إلى طرافةٍ تتبدّى في موقف عبثي عن تناقضات وشخصيات جديدة، ستحيل كلّ شيء إلى غير ما كان عليه.
أول فيلم روائي طويل لمارينا فرودا كلّه حنين وشجن يمسّ الأعماق، عن الوداع والاختفاء. وداع من نحبّ، واختفاء الزمن الماضي. ليس فقط لأنّه أيضاً عن قوّة الناس المتواضعين وصمودهم وتضامنهم العميق. وكما تعترف فرودا في حوار، فإنّ أحد الأهداف الرئيسية لـ"السهوب" بناء جسر بين الماضي والحاضر، وأيضاً جسر للأجيال الجديدة، التي تتعثّر بشكل خطر. فمن دون هذا التماسك الضروري، لا يُمكن لأخطاء الماضي إلاّ أنْ تتكرّر، كما تؤكّد الحرب الدائرة حالياً.