ماذا يفعل الفنان في مواجهة الحرب؟ سؤال يطرحه المتحف الفلسطيني في بيرزيت، عبر موقعه الإلكتروني منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، مستعرضاً عدداً من تجارب الفنانين المعبرة عن نضال الشعب الفلسطيني. تحت هذا العنوان، سنقدم بعض هذه التجارب الملهمة لنضيء على الأساليب المختلفة التي اتبعها هؤلاء الفنانون للتعبير عن المقاومة والتأكيد على هويتهم وانتمائهم. وهنا، سنكون مع سليمان منصور.
تعد تجربة الفنان الفلسطيني سليمان منصور (1947) واحدة من أبرز التجارب المعبرة عن النضال والهوية الفلسطينية. ساهم الرجل بأعماله في الإبقاء على جذوة النضال الفلسطيني مشتعلة في قلوب الفلسطينيين، إذ ارتبطت أعماله بالعديد من الأحداث والوقائع التاريخية المحفورة في الذاكرة الفلسطينية. تحول العديد من لوحات منصور إلى معادل بصري لهذه الأحداث، وساهم في تشكيل وعي أجيال متعاقبة من الفلسطينيين. في أعمال منصور، تتخذ الرموز الفلسطينية التقليدية طبيعة أسطورية، تعبر خلالها المرأة عن روح النضال والمقاومة، وتضفي عليها الثياب المطرزة وأشجار الزيتون والبرتقال بعداً زخرفياً نابعاً من الطبيعة والثقافة الفلسطينية.
في عام 1987، ومع اندلاع أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أسس منصور مع زملائه، فيرا تماري ونبيل عناني وتيسير بركات، مجموعة فنية أطلقوا عليها "نحو التجريب والإبداع"، دعماً لأحداث الانتفاضة. كان الهدف من تشكيل هذه المجموعة مساندة الدعوة إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية بالامتناع عن استخدام الأدوات والخامات المستوردة من إسرائيل، واستبدالها بمواد أخرى. ولأن خامات الرسم لم يكن لها بدائل محلية؛ فقد لجأ هؤلاء الفنانون إلى توظيف الخامات الطبيعية في تشكيل أعمالهم، مثل القهوة والحنة والطين، فتحول الرسم لديهم من تعبير عن المقاومة إلى أسلوب للمقاومة في حد ذاته، وسطروا معاً مرحلة مهمة في تاريخ الحركة الفنية الفلسطينية.
خلال هذه الفترة، تميز سليمان منصور بأسلوبه في توظيف الطين عبر تشكيله على هيئة طبقات متراكبة ثم الحفر عليها وتلوينها بالأصباغ الطبيعية. في هذه الأعمال تحوّل تراب الأرض الفلسطينية إلى عنصر فني يعبر بشكل مباشر عن المقاومة. أنتج منصور بعد ذلك مجموعة من الأعمال الفنية التي وظف خلالها خامات مختلفة كالفخار والحناء والأصباغ الطبيعية، فشكلت هذه المرحلة انعطافة محورية في تجربته. من بين ما أنتجه الفنان خلال هذه المرحلة، سلسلة من الأعمال حملت عنوان "أنا إسماعيل"، وشكلها عن طريق الحفر البارز على الطين، وهي مستلهمة من سيرة النبي إسماعيل ورمزيتها المرتبطة بالأرض والاغتراب.
ما يميز أعمال منصور ارتباطها الوثيق بالتعبير عن تطلعات الشعب الفلسطيني وعن روح المقاومة. رسم منصور المشهد الفلسطيني في القرية والمدينة وعبر عن المقاومة وعن المرأة الفلسطينية ومواسم القطاف، وغيرها من الموضوعات الأخرى المعبرة عن نضال الشعب الفلسطيني وتمسّكه بأرضه. من بين هذه الأعمال التي أنجزها منصور، هناك عملان حظيا باهتمام شعبي لافت، وتحوّلا إلى رمز للمقاومة، وهما لوحة جمل المحامل، ولوحة الشهيدة لينا النابلسي.
اللوحة الأولى رسمها منصور في عام 1973، وتصور رجلاً مسناً يحمل على ظهره مدينة القدس ويشدها بحبل على جبينه، وهي لوحة ذات حجم متوسط مرسومة على القماش بخامة الألوان الزيتية. اختيار منصور لهذه المعالجة الرمزية لعلاقة الفلسطيني بالمدينة المقدسة وأرضه كان له مردود إيجابي على المتلقي، فهو يترجم مشاعر الملايين من الفلسطينيين وإحساسهم تجاه المدينة ومسؤوليتهم في نفس الوقت في الدفاع عنها والحفاظ على هويتها. يسير الرجل المسن وسط فراغ لا نهاية له من درجات الأزرق والرمادي، بينما تتشكل المدينة الملقاة على ظهره كحلم أو رؤيا يؤمن أنها ستتحقق يوماً. ربما لهذا اتخذت المدينة المقدسة هيئة العين، كأننا ننظر إليها مباشرة عبر عيون الرجل أو مخيلته.
اللوحة الأخرى لسليمان منصور هي لوحة الشهيدة لينا النابلسي التي استشهدت في نابلس خلال تظاهرات عمت المدينة عام 1976 وهي بعمر السابعة عشرة. أعاد منصور تشكيل مشهد الشهيدة بزيها المدرسي وهي ملقاة على الأرض عقب استشهادها. في هذه اللوحة يملأ جسد الشهيدة لينا النابلسي كامل المساحة المخصصة للرسم، وفي منظور يضع الناظر إلى اللوحة في مكان المراقب. عبر هذه الوضعية، جعلنا منصور مشاركين جميعاً في هذه اللحظة القاسية، كأننا شهداء على مقتلها، فهل نكتفي إذاً بالمراقبة؟ أشعل هذا السؤال الذي تفرضه اللوحة مشاعر الحماسة لدى أجيال متعاقبة من الفلسطينيين بعد أن أصبح العمل رمزا للنضال والمقاومة. طُبعت لوحة الشهيدة لينا النابلسي إلى جانب لوحة جمل المحاميل آلاف المرات منذ أن رسمهما سليمان منصور، وتحول العملان إلى أيقونات بصرية تزين منازل الفلسطينيين في الداخل والخارج.
خلال مسيرته الإبداعية كرّس سليمان منصور فنه للتعبير عن الهوية الفلسطينية، ووظف الرموز الفلسطينية التقليدية في أعماله، كأشجار البرتقال التي اعتبرها رمزاً للنكبة، وأشجار الزيتون، والتطريز الفلسطيني التقليدي، كما عبر عن الحياة اليومية للفلسطينيين في القرى والمخيمات، ومثلت المرأة في أعماله رمزاً متكرراً للمقاومة والصمود.
ساهم منصور بدور فاعل في الحركة الفنية الفلسطينية، إذ ترأس رابطة الفنانين الفلسطينيين، وشارك في تأسيس مركز الواسطي للفنون في القدس الشرقية، وأسهم كذلك في تأسيس الأكاديمية الدولية للفنون في فلسطين عام 2004. وتولى تدريس الفن في عدد من المؤسسات والجامعات في الضفة الغربية والقدس.