يمر إنديانا جونز على نيويورك وطنجة وأثينا وصقلية في فيلمه الأخير، متسلحاً بترسانة من مشاهد الإثارة التي بنت اسمه. ينتقل البطل بين فترتين زمنيتين، باحثاً عن قطعة أثرية بقوى من شأنها تغيير العالم، قبل أن تقع بأيدي الأشرار. ينتحل جونز شخصية ممثل اسمه هاريسون فورد، في فترة زمنية ثالثة، ويتجه صوب مدينة كانّ الفرنسية، لينال هناك تقديراً من الجمهور.
ربما تخلط الحكاية السابقة الممثل بالدور، مبتعدةً بذلك عن كونها ملخصاً سينمائياً، إلا أن استهلاك ثقافة حكمت على نفسها بالتكرار المأساوي يمكن أن يبرر ذلك، خصوصاً مع تبني هذه الثقافة للعوالم والخطوط الزمنية المتغيرة والمتداخلة لتستطيع الاستمرار لأطول فترة ممكنة، بأكبر أرباح ممكنة وأقل جهد مطلوب. وبينما تتطلب فكرة بناء "العوالم" اتساقاً فكرياً وفنياً هائلاً لملء التفاصيل، وخلق منطق موحد وما إلى ذلك، فإن المبدعين الحقيقيين وراء هذه الروائع غالباً ما يعرفون القليل عن صناعة الدراما، والكثير عن الملكيات الفكرية وعوائد الاستثمار كما سنرى.
على الشاشة، يعمل البطل أحياناً ضارباً بالمنطق والاحتمالات وفرص النجاة عرض الحائط، فهي ليست إلا دعوات صريحة لتحديها يزداد لمعانها كلّما كانت أكثر تعقيداً وصعوبة. وراء الشاشة، لا تعمل شركات الإنتاج بالجسارة نفسها، وتنظر ملياً في منطق سوقها واحتمالاته قبل أن تختار أكثر الطرق أماناً، وهي اليوم - لأجل المفارقة - تلك التي تعج بالأبطال المتهورين والحبكات القائمة على حالة الاستثناء التي يفرضها البطل.
يمكن فهم قلة الجسارة هذه بشكلٍ كامل، إذ إن صناعة الثقافة في هذه الحالة لن تختلف بكثير من النواحي عن الصناعات الأخرى، وستشترك معها في نواحٍ كمحاولات العثور على مواصفات قياسية تسهل عملية الإنتاج وضمان تحقيق العوائد، وتطويع ظروف السوق لضمان هذا الاستقرار.
ولسلاسل الأفلام وعالمها مكان مناسب جداً ضمن هذه العملية. فرغم أن هذه الظاهرة ليست جديدة كلياً، إلا أن هيمنتها على سوق الإنتاج تسارعت بشكلٍ ملحوظ في السنوات الأخيرة فقط، تزامناً بالدرجة الأولى مع التغيرات التي شهدتها وسائط الفرجة وطرق التوزيع؛ إذ شكّل الانتقال نحو منصات البث تحدياً بادئ الأمر للاستوديوهات التي خسرت مصادر ريع تقليدية، إلا أنه في الوقت ذاته لفت أنظارها إلى ضرورة التركيز على جبهة الجمهور العالمي.
وعندما نتحدث عن سوق عالمي، فإن مزيجاً من الخصائص والقيم ستتداخل في عملية التلقي، التي تصنع الفارق بين فيلمٍ ناجح وآخر فاشل. وقد يكون هذا أول أحزمة الأمان التي تشدّها شركات الإنتاج هي تلك التي توفرها السلاسل، إذ تسمح الشخصيات والموضوعات الثابتة بقياس ردة الفعل وإيجاد التوليفة التي تعمل -بتغييرات طفيفة- على در الأرباح، من دون المخاطرة التي ستُصادَف في حالة التعريف بأبطال وعوالم وقصص مختلفة كل مرة، داخل الولايات المتحدة أو خارجها، ويمكن لها أن تجعل من عمليات الرقابة الذاتية أكثر قياسية مع مرور الزمن، من دون أن نذكر أن هذه الأسواق تُغرَق أيضاً بامتدادات أخرى للصناعة، كالبضاعة المرخصة والألعاب والملابس.
ثمة سبب آخر يدفع الشركات للاتجاه نحو الاستثمار في السلاسل، إذ يسمح تصدير هذه العوالم بالإفلات من قبضة الكتّاب وحتى النجوم في حالات معينة. فعندما تكون العلامة شخصيةً خيالية أو عالماً ما، يمكن امتصاص صدمات على شاكلة كتّابٍ مضربين أو ممثلين ومخرجين غير راضين بسهولة، عكس ما يحدث حين يكون الممثل أو المخرج أو غيرهم مركز الرهان. بالطبع، سيطلق المتابعون نحو عقد مقارنات من قبيل أفضل سبايدرمان أو سوى ذلك، لكّن الزمن كفيل بإصلاح كل شيء، كما أن المقارنات تلعب دوراً كوسيلة تسويقية أحياناً. وفي النهاية، يبقى سبايدرمان ملكية فكرية تسهل السيطرة عليها، عكس الأشخاص الحقيقيين، رغم كل محاولات الصناعة لتقريبهم من "الملكيات" أيضاً بطرقٍ عدة كالعقود الحصرية وصولاً لاتفاقيات عدم الإفصاح وغيرها. أكثر من ذلك، غالباً ما تنطلق هذه الأعمال -بحكم اقترانها بأعمالٍ سابقة ككتب الكوميكس أو الروايات - متسلحة بجمهورٍ موجود سلفاً، مؤكدة أن الرهان على العلامة البراقة ينجح معظم الوقت، ويفشل أحياناً أخرى لكن ضمن نسبة أمان معقولة.
ولا يعني ذلك أن الأشخاص الحقيقيين، ممن تعوزهم القوى الخارقة، يتمتعون بحريتهم الكاملة في الوقت ذاته. فرغم أنه ليس ثمة أسس قانونية لاعتبارهم ملكيات خاضعة للشركة (حتى اللحظة)، إلا أن التلاعب ببنية السوق وإنتاجاته تدفعهم أحياناً وتحت الضغط للمضي بإرادتهم الكاملة، أياً كان معنى الكلمة، للعمل على خط الإنتاج الوحيد الذي يجري بسرعة مقبولة في هذا المصنع الكبير. وفي هذا الظرف، يمكن القول ببساطة إن أي شخص يصبح مسنناً قابلاً للاستبدال.
عندما يتفرد خط الإنتاج هذا بنعمة الدوران، سيلتف الجميع حوله، ممن يرغبون بتقدم مسيرتهم وتأمين كفاف يومهم بكل حال. وعندما تتوقف بقية الخطوط، إن صحت التسمية، ونجد أنفسنا أمام المنتج ذاته بنكهات لا تعد ولا تحصى، فإن ذلك أقرب ما يكون لمأساة تحاول ألا تبدو كذلك.
إن الأثر الأبرز لهيمنة نموذج السلاسل على الإنتاج السينمائي، لا يكمن في حضورها الطاغي حقيقةً، بل في الغياب الذي تحدثه. فمع تركّز التمويل وجذبه، أو احتكاره للمواهب وتوظيفها في نوعٍ من الأعمال، حينها سيكون هذا النوع هو الوحيد. لهذا السبب، يرى كثيرون أن السلاسل تهدد الإنتاج المستقل وتحدّ من التنوع الذي يمكن لوسائط مثل السينما أن تستفيد منه.
في الواقع، تحضر المشكلة بشكلٍ لافت للدرجة التي لم تعد تكتفي عندها هذه الأعمال بطرح نفسها كماكينات تدر الأموال وحسب، بل صارت تتوغل بشكل مطّرد لتحكم قبضتها على رأس مالٍ ثقافي، محاولة تطويع وتسخير عدد من القضايا -الراديكالية في الأصل- وتشويهها لتلائم قالبها. والحقيقة أن مشهداً بهذه المأساوية يصعب تصوّره بشكلٍ أكثر إشراقاً، حتى عندما تظهر بعض الأعمال الجيدة المبعثرة هنا وهناك، ما يتركنا بانتظار الإجابات للعديد من الأسئلة عن الثقافة اليوم، وعن السياسة نفسها وفرص التغيير الممكنة خارج هذا الأمر الواقع. وحتى تلك اللحظة، سيظل خبر ختام نهاية سلسلة Fast & Furious (إن انتهت فعلاً) أفضل ما سيمكننا توقعه.