سعد العشّة يوثّق سينما ليبيا: أسلوب عادي لكنّه مُحبَّب

20 فبراير 2023
أحمد بلال (اليمين) ومحمد المزداوي وسعد العشّة: حكاية البدايات (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

توثيق سيرة السينما في بلدٍ عربيّ مطلبٌ، لكنّ تحقيقه صعبٌ، عادةً، في أمكنةٍ غير مُدركةٍ أهمية التوثيق، المكتوب والمسموع والمرئي، وغير حاميةٍ ذاكرتها وتراثها، في الثقافة والفنون على الأقلّ. "السينما، ولا شيء بسواها" (39 دقيقة، 2022)، للّيبي سعد العشّة (إعداداً وإخراجاً وتوليفاً، بالإضافة إلى التصوير، الذي يُشارك فيه عبد المجيد الجّربي ومحمد السعيطي)، يستعيد تاريخ السينما الليبية، في شكلين اثنين: علاقة أفرادٍ بالمُشاهدة والصالات والأفلام، وخلاصات تجارب عاملين فيها. أما العاملات، فغير موجودات، لكنّ العشّة، بعد نحو 4 دقائق على بداية فيلمه هذا، يكتب التالي: "لحظات صمت على أرواح النساء" الغائبات عن هذه المقابلات. هناك، فقط، لقطة من "حقول الحرية" (إنتاج مشترك بين ليبيا والمملكة المتحدة، 2018) لنزيهة العريبي.

التداخل بين الشكلين غير مانعٍ متابعة المرويّ على ألسنة عارفين ومشاركين في صُنع أفلامٍ، بعضهم غير متردّد عن قول نقدٍ سلبيّ لفيلمٍ أو حالة. والمرويّ، اللاحق على 5 تعريفات يبدأ الفيلم بها، يكشف بعض المُعاش في أزمنةٍ مختلفة، يُفترض به (هذا البعض) أنْ يُشكِّل ركيزةً لتوثيقٍ يحفظ الحكايات من الاندثار. العناوين الـ5 تُحدِّد الحاصل في البلد: 1912، نهاية ليبيا العثمانية وبداية ليبيا الإيطالية. 1951، استقلال دولة ليبيا. 1969، نهاية المملكة الليبية وبداية الجمهورية الليبية. 1977، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى. 2011، نهاية الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى.

صُور فوتوغرافية، لاحقة على العناوين، تختصّ بصالاتٍ، وواحدة تكشف عفناً واهتراءً في مكتبٍ، يبدو أنّه للتوثيق (الصُور مأخوذة من موقع "بلد الطيوب"، وأرشيف عبد الرزّاق بن نعسان، وأرشيف مؤسّسة "أريتي"، ومقتنيات عبد الله الزرّوق). بدايةٌ تُقدّم لمحة سريعة عن محتوى بصري، لفيلمٍ غير مُدّعٍ وغير معقّد، بقدر ما فيه من سلاسة. العاديّ في اشتغاله غير مانعٍ انتباهاً إلى تفاصيل سينمائية، تنفتح على الإداريّ والإنتاجي والسياسي، وعلى تحوّلاتٍ، معظمها سلبيٌّ.

في هذا كلّه، يتمثّل الجماليّ بتقنية الأفلام الصامتة، المُنجزة بالأسود والأبيض، في دقائق عدّة، لفصلٍ بعنوان "في البدء كان الصمت"، ولقاء مع أحمد بلال، أول مهندس صوت في السينما الليبية، والبداية عائدةٌ إلى عام 1967، في مركز التدريب لشؤون الإعلام. تقنية مُحبَّبة، تجمع الملامح الأولى للفنّ السابع، بحبّ له، بل بشغفٍ به. مع بلال، هناك محمود المزداوي، خليفته في استديو الصوت: "التلميذ والأستاذ".

 

 

هذه التقنية مُريحة للغاية: التصوير، الصمت، الشريط الذي يكاد يكون مهترئاً، الجُمل المكتوبة على الشاشة بين حينٍ وآخر، لتفسير كلامٍ يُقال من دون الاستماع إليه، الموسيقى (لها، في الفيلم، حضورٌ متواضع، يتألّف من مقطوعة لباخ، و3 لموزار). تقنية تروي، شكلاً ومضموناً، بعض تلك البدايات، التي يُكملها آخرون، "متورّطون" في المهنة، أو عاشقون لها. أفرادٌ، لكلّ واحد منهم اختصاص ومهنة، يروون بعض ذاتٍ في سياق البحث عن العام، وفيه. لقطاتٌ من أفلامٍ ليبية، طويلة وقصيرة (منذ عام 1936، وفيلم "الفرقة البيضاء" لأوغستو جينينا)، تتخلّل حكايات هؤلاء، وبعضها انتقاديٌ، خاصة مع فيلمي السوري الأميركي مصطفى العقّاد، "الرسالة" (1976)، و"أسد الصحراء" (1981)، الذي (العقّاد) يُقال فيه كلامٌ قاسٍ، بعضه منقول عن أنتوني كوين، يتمحور (المنقول) حول سلبيات في اشتغالاته وتصرّفاته.

اللاحق على تلك التقنية مشغول بأسلوبٍ عادي للغاية، تعرفه إنتاجات وثائقية/تسجيلية عدّة في السابق. هذا لن يحول دون متابعةٍ، تكشف بعض الحكاية، بتبسيط وسلاسةٍ. السينما طاغية، لكنّ بلداً مثل ليبيا يحرّض على كلامٍ في أمور أخرى، لما في البلد من تسلّطٍ وانغلاقٍ تمارسهما "الجماهيرية الشعبية الاشتراكية..." تحديداً.

مشاهدة "السينما، ولا شيء بسواها" تُعرّف المهتمّ على وقائع وحكايات وتفاصيل، مدعومةً بمعلومات وصُور. تغييرٌ تقني طفيفٌ يعتمده سعد العشّة في آلية اشتغاله: في كلامٍ يتناول فيلمين لعبد الله الزرّوق، "عندما يقسو القدر" (1972) و"معزوفة المطر" (1994)، يتحوّل الشريط، الذي يُصوّر قائل الكلام، إلى "نسخة سالبة"، مع الإشارة إلى أنّ الفيلم "ضائع".

هذه إضافة بصرية تُخفِّف، قليلاً من ثقل المعلومات والمرويات، وتؤكّد مجدّداً شغف العشّة بصنيعه، وبمادة الصنيع (السينما، التاريخ، الذاكرة، الوقائع).

المساهمون