كان ألبوم Innervisions للفنان الأميركي ستيفي وندر (Stevie Wonder) قد صدر سنة 1973 التي أعلنت انقضاء عقد غربي سابق من الرخاء والازدهار إبان فترة ما بعد الحربين، وأنذرت بسنين قادمة قاسية سيسود خلالها الكساد، وترتفع مؤشرات الفقر والبطالة، لتزيد معها معدلات الجريمة، وتشتد مظاهر العنصرية، بينما يئن كل من الاقتصاد والصناعة جراء أزمة سوق النفط وخروج أسعاره عن سيطرة القوى العظمى.
في تلك الأجواء المعيشية الاجتماعية المتلبدة، يُسمع الألبوم دعوةً إلى صحوة تأملية بعد طول سُكر وانغماس في نِعَم العيش استمر منذ منتصف الخمسينيات. سواء من العنوان الرئيس أو عناوين المقطوعات ونصوص الكلمات، يبدو وندر كما لو أنه ماضٍ في رحلة استبطانية بنيّة البحث عن أجوبة للأسئلة الوجودية الكبرى، كالغرض من الحياة والموقف من الموت والكيفية التي تنبغي من خلالها رؤية العالم من أجل العيش بتناغم واتساق رغم أمارات التخبط والضياع.
من ميّزات الفنون، بوصفها وسائط تعبير عن الذات، أنها تمنح المبدع، إن هو أحسن الإمساك بأدواته الإبداعية، فرص البوح بالمكنون الداخلي والنظر بمنظار خاص بقدر ما تمنح المتلقي فرصة مشاركة المبدع لمكنونه، والنظر إلى الحياة عبر منظاره؛ بذلك، ولوهلة التلقي، تصبح رؤى المبدع رؤاه.
تتجسد تلك المشاركة وذلك التماهي بأبهى صورة في أغنية Visions، ثاني مقطوعات الألبوم؛ إذ مجرّد أن تتناهى أول النُثارات الغريبة من تراكيب الائتلافات النغمية الدانية والبعيدة، تدخل الأذن مجالاً صوفياً، تُهّيأ بموجبه لتلقّي البوح: "الناس تمسك بأيدي الناس. هل عشت لأرى جنة اللبن والعسل؟ حيث الكراهية أضغاث أحلام والحب قائمٌ على الدوام، أم تلك يا ترى محض رؤية في بالي؟".
تُسند الكلمات إلى لحن غامض لا تلوح له خاتمة، وذلك في دلالة موسيقية على حال التساؤل وفي إشارة إلى شك لا يزال يفصل الرؤية عن تحقّقها على أرض الواقع. واقعٌ سيفرض نفسه عند الكوبليه، الذي يُكرّر مُتّخذاً لبوساً موسيقياً أكثر ثباتاً واستقراراً، يُؤدّى بأجيج درامي به حميّة وحسم، يشدو وندر من خلاله: "لست ممن يصنعون اليقين، فأنا أعلم أن ورق الشجر أخضر، وأنه سيؤول أصفر عند حلول الخريف. إنني أعلم فحسب ما أقوله: اليوم ليس الأمس، وكلّ شيء فانٍ".
إلا أن الكوبليه المتصاعد لن يلبث أن يخبو ويخمد من دون انحلال خَلاصيّ جلّي، مُمهّداً لأجواء العَوْد على بدء عبر المذهب ونثاراته النغمية المتوالية التأملية والتساؤلية، وستستمر الأغنية على المنوال ذاته حتى النهاية من حيث كانت البداية. لعلها عبرة تشاؤمية إذاً. تقضي بأن رؤى عالم طوباوي يسود بالحب ويغيب عنه البغض ليس لها أن تتحقق بل أن تبقى مستحيلة، أسيرة المخيلة، تدور في فضائها.
مما تقدم، تبدو أغنية Visions خارجة عن المألوف من عدة نواحٍ. هي أولاً أغنية جماهيرية، إلا أنها تشاؤمية بصورة صريحة، وتلك حالة نادرة؛ إذ غالباً ما تقتضي السوق الفنية ألا تجنح الأغاني نحو حافة المشاعر الإنسانية، إلا إذا توفّرت على بوارق أمل أو حلول تطهيرية (Catharsis) تُعيدها إلى راحة الاستقرار الحيوي (Homeostasis)، سواء بالمعنى أو المغنى أو كليهما. ثانياً، هي أغنية جماهيرية مينيمالية مُرسلة لا يُمسكها قالبٌ محكم ولا تشهد أحداثاً درامية لافتة ولا يُتخمها إسهابٌ في التوزيع الموسيقي، وتلك أيضاً حالة نادرة؛ إذ تقتضي السوق أن تتوفر للأغنية عوامل الجذب من كل نوع وعلى جميع الصعد بغية الاستئثار بأكبر قدر من الأسماع.
إلا أن الأغنية تبقى مع ذلك شديدة الجاذبية. أما مصدر جاذبيتها فيعود إلى ملكة ستيفي العجيبة في التطريب. ففي كل مرة يُعاد بها المقطع الثاني، يجود فيه بصوته مرتجِلاً، واهباً المكرر عند كلّ تكرار طابعاً فريداً، فيُسمع كما لو كان مقطعاً جديداً. يُطِلق حنجرته بعيداً فتُصيب نغمات شديدة العلو، ثم تهبط مجدداً عند نغمات واطئة، حيث يرجّف صوته بتقنية الفيبراتو (Vibrato) على شكل موجات ضيّقة سريعة تارة، وتارة عريضة منبسطة. بهذا وفي ظلّ الرتابة، تظلّ الأذن تترقّب الصدمة الشعورية تلو الأخرى، التي سيوقعها بها أداؤه الخارق للعادة.
لئن ارتبط مفهوم الطرب بالغناء الشرقي والجماليات الشرقية، فلا يستغرب القارئ للعربية وصف أداء مغنّي بوب أو سول أميركي بالمطرب. ذاك أن الطرب في معناه الخارج عن إطار الهوية والداخل في فضاء التعبير الإنساني، كأداة إبداعية تستخدم بقصد التأثير العاطفي والصدم الشعوري، إنما له تجلّيات في جميع الثقافات، منها الموسيقى الكلاسيكية الغربية والجاز وغيره.
يعتمد الطرب الشرقي على التنويع في سُبل العبور من نغمة إلى أخرى ضمن مقام واحد أو على خط انتقالات مقامية، ومرّات، إحداث الانتقال أدائياً عن طريق الارتجال. أما التطريب في سياق الموسيقى الغربية، وغناء وندر مثال صادق على ذلك، فإنه يتحقق بالحوم حول الانتقالات السلمية، معززاً من حضور النغمات الحساسة ضمن السلّم الواحد، أو ضمن المركّب السلمي الناتج عن تركيب أكثر من سلم بشكل عمودي معاً، وفي بعض الأحيان، قد يُضيف نغمة دخيلة تُغيّر من الكمون الشعوري لذلك السلم أو ذاك المُركّب مسببةً أشبه بانتقال سُلّمي طارئ.
بمعنى آخر، يقع الطرب حين يتمكن المؤدي من حرف المسار الشعوري للأداء عن وجهة اليقين الرتيب والأليف. إنه ثمرة ذكاء جمالي يولي اهتماماً تلقائياً بطرق العبور والمجالات البرزخية ما بين الألحان، أكثر مما يوليه للمراسي والإحداثيات الثابتة التي تمر بها. لرحلته الاستبطانية في مهمة البحث عن أجوبة الأسئلة الوجودية الكبرى، في غمرة التغيّرات الكبرى، جنّد ستيفي وندر في أغنيته Visions أطرب ما في جعبته، كما لو أنه على يقين بأن رحلته بلا مرسى، ولن تأتي عليه سوى بمزيد من الأسئلة.