زهور جميل ملاعب... كطفل يرى الحديقة لأول مرّة

07 فبراير 2023
الفنان جميل ملاعب أمام لوحات المعرض (ميشيل صايغ)
+ الخط -

لا شكّ أنَّ الزهور موضوعٌ مغرٍ للرسم. ولا داعي إلى أن يكون المرء رسامًا ليدرك هذا الأمر، يكفي أن نقلّب في ذاكرتنا البصرية ما حفَّظته من لوحات لفان غوغ، وماتيس، ومانيه، ولاتور، ورينوار، ووارهول، وكونستابل، ومونيه، وكليمت، وموندريان... والمئات من الفنانين غيرهم، لنكوّن هذا الانطباع.

الذهاب إلى الحقل

ولعلّ معرض "زهور ملاعب" للفنان التشكيلي اللبناني جميل ملاعب (1948)، المقام حالياً في غاليري جانين ربيز-الروشة (مستمر لغاية 25 فبراير/شباط)، يؤكد أن الزهور أغرته هو أيضًا؛ فعرض سبعا وعشرين لوحة بقياسات صغيرة ومتوسطة (أصغرها 20 في 25 سم، وأكبرها 95 في 75 سم)، لزهور متنوعة، كتب عنها أنها هدية الأرض وهدية البيت العتيق وعلامة الذهاب إلى الحقل، وأنه يحفظها ويدونها ويحلم بأن يحتفل بها وأن ينتمي إليها. يلاحق تفاصيلها وأسرارها، ويجتهد ليصل بها إلى مرتبة الخلود، ومنها يتعلم صفاء اللون ويلتمس ألوهية الوجود.
الزهور ليست العنصر الطبيعي الوحيد الذي رسمه ملاعب في مجمل تجربته. فعلى مر السنوات (منذ سبعينيات القرن الماضي) والمعارض والمراحل التشكيلية المتنوعة شكلت الطبيعة جزءًا واسعًا من لوحاته. وبنظرة استعادية لأعمال ملاعب، بالإمكان تقسيم مواضيعها إلى اثنين؛ القسم الأول مواضيعه نساء (عاريات ومحتشمات)، نساء في الحقل، مشاهد تجمع حشودا من النساء والرجال والأطفال في مناسبات عديدة، بعضها يدل على مناسبات خاصة في مجتمعه الدرزي.
أما في القسم الثاني، فرسم الطبيعة بكافة عناصرها: طيور طليقة في السماء، وأخرى ساكنة على الأشجار، طيور في أقفاص، بحر وسماء ومراكب، حقول، بيوت... وآخر هذه العناصر الزهور، بطلة معرض الأخير، والعنصر الوحيد الحاضر فيه.
لكن هذا المعرض الأخير، وإن بدا بزهوره امتدادًا لموضوع الطبيعة، واستكمالًا لمفرداتها، إلا أنه لا يُظهر تطورًا في الأسلوب، إنما انسحاب منه.

الخط بلونه الداكن

تنوّع أسلوب ملاعب في معارضه السابقة المندرجة مواضيعها تحت فئة الطبيعة بين المينيمالي والتجريدي، وحافظ دائمًا على ألوان طازجة. في المعرض الحالي، أبقى على براءة ألوانه، لكنه ابتعد عن التجريد والمينيمالية، ولم يقترب من أسلوب راكم عليه سابقًا (تحديدًا بالمقارنة مع لوحات الطيور التي رسمها على عدة مراحل: 2010 كلوحات "الحساسين" و"النوارس"، وتطورت في 2017 مع لوحات متل "عصافير على الأغصان" و"العصافير الرمادية" وغيرها، وصولًا إلى لوحات البيوت). بالرغم من تكرار حضور الخط بلونه الداكن، والذي شكّل عنصرًا مهمًّا في اللوحات السابقة، إلا أن استخدامه مع الزهور هوية مختلفة، ليست بقوة الهوية السابقة. احتضن الخط وأحاط بكل زهور لوحات المعرض، لكنها جاءت إحاطة تزيينية، حتى عندما تحرر من لون الزهور على أطراف اللوحة.
بالإمكان التكهن أن رسم هذه الزهور كان مسليًّا لملاعب. كمتقاعد أراد أن يمرر وقتًا، أو رجل بات فارغًا من مهام أخرى وهواجس لم يعد معنيًّا بتتبُّعها، وقرر أن يرسم زهور حديقته، فرسمها بفرشاة المزهو بكل الألوان التي تكتنزها، الزهور كما تتعبّأ في أنابيب الألوان، قبل أن تتفجّر على القماش، من دون الأخذ بعين الاعتبار حسابات المتمرس ومراكماته الفنية. رسم ملاعب لوحات هذا المعرض كرجل سعيد بزهوره، التي ربما زرعها بيديه، أو على الأقل أشرف على زراعتها، وفخور بنفسه كشريك للطبيعة، وفخور بيده "الخضراء" التي نجحت في خلق ما خلقته، فقرر رسمها ليحتفل بها وليخلدها ويخلد إنجازه، أو ربما رسمها كما ترسم امرأة قررت في لحظة ما أن تخصص لنفسها وقتًا بعيدًا عن الواجبات والمسؤوليات اليومية، وأن تستمتع بوقتها باحثةً عن هواية تؤنسها (كمن يبحث عن فيلم خفيف لنهاية يوم متعب)؛ فاختارت الرسم، وتحديدًا رسم الزهور المنعشة، طارحةً لوحات خفيفة أيضًا، خالية من الأسئلة. لكن هذه المرأة على الأغلب لن تعرض رسمات زهورها إلا ربما على الأصدقاء، بعكس ما فعل جميل ملاعب.

رسم للتسلية

في لوحات معرضه الحالي - التي تتراوح أسعارها بين 1200 و8000 دولار- ألوان كثيرة تنبض بالحياة، تمامًا كما تنبض بها الزهور. كثيرٌ منها خرج من أنابيب الألوان مباشرة إلى الكانفاس من دون أي تدخل من ملاعب، كأنّ فرحه باكتشافات سحر الألوان أعطاه مبرًرا (ليس بالضرورة جماليًا) كي لا يعالجها ويترك بصمته فيها.
ملاعب الذي صرح في مقابلة له أن رسومات هذا المعرض استغرقت ثلاث سنوات (أي منذ 2019)، يبدو أنه استند في قراره عرض هذه الأعمال إلى تاريخه الفني؛ أي إلى أشجاره وبحره وسمائه، وتحديدًا طيوره وبيوته الأخيرة التي تجددت وتطورت وازدادت كثافةً مع كل تكرار، واثقًا (من دون أن تكون ثقة بمكانها بالضرورة) أن هذا التاريخ سيشفع له كل ما يعرضه في حاضره. هكذا، جاء معرضُه الأخير كما لو أنه معرضُ متمرسٍ قرر أن يرسم للتسلية. قطف زهوره كطفل نزل إلى الحقل أول الحديقة للمرة الأولى في حياته، فبهره ما رآه، ليعود ويرشق الزهور التي قطفها وألوانها على الكانفاس البيضاء، بتأليف لا دهشة فيه، وإحساسٍ جاء لا هو طفول ولا ناضج، فترك انطباعات متواضعة على الأقل بعد النظرة الثانية المتفحصة التي تأتي بعد سكرة اللون والتي لا تصيب الجميع، تشبه الانطباعات التي يتركها نقش الزهور على الأقمشة.

يذكر أن جميل ملاعب تتلمذ في كلية الفنون بالجامعة اللبنانية على أيدي الفنانين اللبنانيين شفيق عبود (1926- 2004) وبول غيراغوسيان (1926 - 1993)، وعرض في متاحف وصالات عرض ومزادات عالمية.
في عام 2015، انتهى ملاعب من بناء متحف في بلدة بيصور (قضاء عاليه، محافظة جبل لبنان) مسقط رأٍسه، ويضم المتحف بالإضافة إلى أعماله، أعمال فنانين تشكيليين لبنانيين مثل: حسين ماضي، وحسن جوني، وبول غيراغوسيان، وشفيق عبود، ورشيد وهبي، وعمر أنسي، وحليم جرداق، ومصطفى فروخ، وعارف الريس وغيرهم.

المساهمون