أعلن قطب الإعلام اليميني القوي الذي بنى وأشرف على واحدة من أكثر إمبراطوريات الأخبار نفوذاً في العالم، روبرت مردوخ، الخميس، ترك رئاسة مجموعتي نيوز كورب وفوكس كوربوريشن، الشركة الأم لقناة فوكس نيوز المحببة لدى المحافظين الأميركيين، ليسلّم القيادة لابنه لاكلان. ويدخل هذا الإجراء حيز التنفيذ في الاجتماع العام المقبل لمساهمي الشركتين منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، ليصبح روبرت مردوخ بعدها رئيساً فخرياً للمجموعتين.
وكتب روبرت مردوخ (92 عاماً) في مذكرة موجهة للموظفين: "طوال حياتي المهنية كنت منشغلاً يومياً بالأخبار والأفكار، وهذا لن يتغير. لكن الوقت مناسب بالنسبة لي لتولي أدوار مختلفة".
وقال لاكلان مردوخ (52 عاماً) للصحافة: "نيابة عن مجلسَي إدارة فوكس ونيوز كورب وفرق الإدارة وجميع المساهمين الذين استفادوا من عمله الدؤوب، أهنئ والدي على مسيرته الرائعة التي استمرت 70 عاماً". وأشاد بـ"روح الريادة" لدى روبرت مردوخ و"تصميمه الذي لا يتزعزع" و"إرثه الدائم"، قائلاً إنه يعوّل على "نصائحه القيّمة".
ويأتي تقاعد رئيس إمبراطورية "فوكس"، التي تحتل قناتها الإخبارية فوكس نيوز موقعاً مركزياً لدى المحافظين، في لحظة حاسمة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2024، والتي يُعتبر فيها دونالد ترامب المرشح الأوفر حظاً للفوز بتمثيل الجمهوريين في السباق الرئاسي.
مردوخ، بصفته رئيساً لـ"فوكس" التي تنشر صحفاً بارزة وذات تأثير واسع، مثل "وول ستريت جورنال" و"نيويورك بوست"، ظل لعقود من الزمن يتمتع بنفوذ كبير في الحزب الجمهوري، لا يضاهيه سوى قِلة مختارة. كما يأتي تقاعده في لحظة مهمة في صناعة الإعلام؛ حيث يواجه عمالقة الترفيه تحولاً في أعمال التلفزيون والسينما التقليدية وانجذاب المستهلكين بسرعة نحو خدمات البث المباشر.
القائد الجديد
وصف مردوخ نجله بأنه "قائد شغوف ومبدئي". ومن غير الواضح ما إذا كان اتجاه "فوكس" سيتغير في عهد مردوخ الابن، لكن والده أشار إلى أنه سيحافظ على التوجه التحريري اليميني الذي تشتهر به شركاته الإعلامية. وقال روبرت مردوخ الذي أكد للموظفين أنه يتمتع "بصحة قوية" إنه في منصبه الجديد رئيساً فخرياً سيظل "منخرطاً يومياً في سباق على الأفكار".
ومع ذلك، انتقد لاكلان مردوخ ترامب، قائلاً إنه لا يوافق على الكثير من الخطوات التي أقدم عليها الرئيس الأميركي السابق، وفق ما كشفت مصادر مطلعة لشبكة سي أن أن، العام الماضي. وذهب مردوخ الابن أبعد من ذلك، إذ نُقل عنه قوله إنه يعتقد أنه إذا ترشح ترامب مرة أخرى للرئاسة، فسيكون ذلك سيئاً بالنسبة للبلاد.
إمبراطورية إعلامية على 3 قارات
بنى روبرت مردوخ على مدار ستين عاماً إمبراطورية إعلامية خارج نطاق موطنه أستراليا، جامعاً منظمات إعلامية رئيسية تمتد عبر ثلاث قارات، في مسيرة تخللتها أيضاً عدة فضائح. تمكن قطب الإعلام، عبر شركتيه نيوز كورب وفوكس كوربوريشن، من بناء إحدى أكبر المجموعات في العالم التي تضم صحفاً وإذاعات تحت سقف واحد.
وقدرت مجلة فوربس ثروته بنحو 17.3 مليار دولار الخميس، عند الإعلان عن اعتزامه ترك رئاسة المجموعتين.
تضم "نيوز كورب" ممتلكات مردوخ في بلده الأم أستراليا، وأهمها صحيفة ذا أستراليا اليومية الوطنية الوحيدة التي أسسها عام 1964. تملك المجموعة أيضاً في البلاد صحيفة ديلي تلغراف وموقع "نيوز.كوم. إيو."، بالإضافة إلى "سكاي نيوز أستراليا" التلفزيونية، و"فوكس تِل" التلفزيونية المدفوعة. في بريطانيا، جاء الاستثمار الأول لمردوخ عام 1969، من خلال شراء صحيفة نيوز أوف ذا وورلد الشعبية التي أغلقت عام 2011، بعد فضيحة تتعلق بالتنصت بشكل غير قانوني على ضحايا القتل والإرهاب والسياسيين والمشاهير. اشترى مردوخ، عام 1981، "ذا تايمز" اليومية العريقة، بالإضافة إلى "صنداي تايمز"، ليضيفهما إلى الصحف المكتوبة التي تضمنت أيضاً "ذا صَن". وتشمل أملاكه في الإذاعة والتلفزيون كلاً من "تولك سبورت" و"تولك تي في" و"فيرجن راديو يو كي". وتتواجد "نيوز كورب" في أيرلندا أيضاً، عبر محطات الإذاعة المحلية. أسس مردوخ إمبراطورية صحافية منحته وصولاً ونفوذاً سياسياً لا مثيل له في بريطانيا.
دخل مردوخ سوق أميركا الشمالية عام 1985، مع شرائه لصحيفة نيويورك بوست. عام 2007، استحوذت "نيوز كورب" في صفقة كبرى على مجموعة "داو جونز" الإعلامية التي تشمل ممتلكاتها صحيفة وول ستريت جورنال العريقة. استحوذت الشركة أيضاً على دار هاربر كولينز للنشر عام 1987. تسيطر الشركة أيضاً على "ريا غروب" المتخصصة في العقارات التجارية والسكنية. وفي السنة المالية 2023، أعلنت شركة نيوز كورب عن أرباح قيمتها 149 مليون دولار على إيرادات بلغت 9.9 مليارات دولار. عام 1984، استحوذ مردوخ على شركة "توينتييث سنتشوري فوكس"، وقام بإعادة تنظيمها وتشكيلها. وباعها عام 2017 إلى "ديزني". تتألف "فوكس كوربوريشن" اليوم من قناة فوكس الوطنية وعدد من قنوات الكابل، أهمها القناة الإخبارية فوكس نيوز المفضلة لدى المحافظين الأميركيين. وبالإضافة إلى ذلك، تشمل المقتنيات شبكة تي إم زي لأخبار الترفيه، واستوديو رامزي غلوبال الذي يضم امتياز برنامج "ماستر شيف" والشيف البريطاني الشهير غوردن رامزي. وفي السنة المالية 2023، أعلنت "فوكس" عن أرباح قيمتها 1.3 مليار دولار من إيرادات قدرها 14.9 مليار دولار.
وعلى الرغم من أنه ركز بشكل كبير على المطبوعات والتلفزيون، فإنه حاول من دون جدوى السيطرة على الإنترنت أيضاً. اشترى "ماي سبيس"، إحدى أولى الشبكات الاجتماعية، عام 2005، مقابل 580 مليون دولار. وعام 2011، باعها بخسارة كبيرة بلغت 35 مليون دولار. وقال لاحقاً إن المنصة فشلت بسبب "سلسلة من الفرص الضائعة باهظة الثمن" مع إضافة "طبقة من البيروقراطية" التي أوقفت التقدم ضد المنافسين مثل "فيسبوك" و"يوتيوب".
"فوكس نيوز"
دشن روبرت مردوخ "فوكس نيوز" عام 1996 لتكون شبكة محافظة منافسة لـ"سي أن أن". أصبحت في النهاية على رأس القنوات الإخبارية في الولايات المتحدة، عبر التركيز على سرديات المحافظين. ومع ذلك، انحرفت القناة عن جذورها في الأخبار المحافظة مع صعود دونالد ترامب إلى السلطة في الحزب الجمهوري عام 2015، لتصبح ملاذاً للدعاية اليمينية التي تهدف إلى دعم البيت الأبيض الذي غزته الفضائح.
تتمتع المنافذ المملوكة لمردوخ أيضاً بتاريخ طويل في تقويض علوم المناخ والتقليل من شأنها. وفي الولايات المتحدة، أصبحت قناة فوكس نيوز موطناً لنظريات المؤامرة المتعلقة بتغير المناخ والأشخاص الذين يروجون لها. وفي حين قال مردوخ عدة مرات إنه لا يدعم إنكار المناخ، فقد استمرت منافذه الإعلامية في الترويج للأمر واستضافة المشككين.
"لم يلحق أحد ضرراً بفهم تغير المناخ أكثر من روبرت مردوخ الذي استخدم شبكته الإعلامية العالمية كسلاح لزرع الشك والارتباك حول العلوم الأساسية"، كما قال عالم المناخ الشهير في جامعة هارفارد، مايكل مان، لـ"سي أن أن".
في السنوات الأخيرة في عهد مردوخ، قدمت "فوكس نيوز" نظريات مؤامرة لا أساس لها من الصحة، بينها ما يتعلق بجائحة كوفيد-19 وبالانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2020. أدت الأكاذيب التي نشرتها "فوكس نيوز" بشأن الانتخابات إلى رفع دعويين قضائيتين كبيرتين للتشهير من شركتي تكنولوجيا التصويت "دومينيون فوتينغ سيستمز" و"سمارتماتِك". قامت "فوكس"، في وقت سابق من هذا العام، بتسوية دعوى "دومينيون" مقابل مبلغ تاريخي قدره 787.5 مليون دولار. ومع ذلك، فإن الدعوى القضائية لـ"سمارتماتِك" لا تزال في أروقة المحاكم.
هل نترقب صراعاً بين الأبناء؟
لطالما رغب روبرت مردوخ، وهو أب لستة أبناء، في أن يتولى أبناؤه مقاليد الإمبراطورية في نهاية المطاف. وكان نجله جيمس يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة توينتييث سنتشوري فوكس قبل أن تبيع أصولها في مجال السينما والتلفزيون لشركة والت ديزني مقابل 71.3 مليار دولار، عام 2019. وجّه جيمس مردوخ لاحقاً عائدات الصفقة إلى شركة استثمار خاصة تدعى "لوبا سيستمز"، وعين ابنه لاكلان رئيساً تنفيذياً لشركة فوكس الجديدة.
عند وفاة مردوخ، يمكن لأبنائه الآخرين تحدي سلطة لاكلان. يسيطر مردوخ على "نيوز كورب" و"فوكس كورب" من خلال صندوق عائلي مقره في رينو في ولاية نيفادا، ويمتلك ما يقرب من 40 في المائة من أسهم التصويت في كل شركة. كذلك فإنه يحمل عدداً صغيراً من أسهم الشركات خارج الصندوق. ولكل من أبناء مردوخ الأربعة من زواجه الأول والثاني (لاكلان وجيمس وإليزابيث وبرودنس) حصة في الصندوق. ولا تتمتع ابنتاه الأصغر كلوي وغريس، من زوجته الثالثة ويندي دينغ، بحقوق التصويت في الصندوق.
نقل حصص التصويت في الشركتين من مردوخ إلى أبنائه الأربعة البالغين قد يخلق سيناريو يمكن فيه لثلاثة من الأبناء أن يتفوقوا على الرابع، ما قد يشعل معركة حول مستقبل الشركتين، حتى مع تسلّم لاكلان رئاسة الشركتين حالياً.
وقال المدير التنفيذي السابق لـ"نيوز كورب"، جوناثان ميلر، الذي عمل جنباً إلى جنب مع مردوخ الأب: "إنها نهاية عصر المؤسسين والأقطاب". وأضاف، متحدثاً لـ"رويترز"، أن جيلاً من عمالقة الإعلام ساهموا في تشكيل الصناعة الحديثة، والآن انتقلت العباءة من المؤسسين إلى المديرين التنفيذيين الذين ارتقوا في المناصب.