بدأت القصة كلها في العام 1966، عندما كان يلهو بكاميرته محاولاً أن يستكشف كيفية عملها. مقطع بسيط مسجّل على شريط 16 مليمتراً. يفاجأ بعدها بقراءة نقد فني موجز عن ذلك المقطع في "نيويورك تايمز". في اليوم التالي، يصطف الناس لمشاهدة أول أعماله، Chafed Elbows، الذي شكل صدّمة حينها لمن تابعه، نظراً إلى طرحه الغرائبي، الذي يتناول فيه قصة شاب صغير مضطرب يعيش مع والدته في وضعٍ مزرٍ وبائس، من ثم يقرر الشاب أن يتزوج من والدته.
هذه الأفكار والشخصيات المريبة بطقوسها الغامضة، استمرت بالظهور في أعمال المخرج وصانع الأفلام الراحل روبرت داوني سينيور، الذي بدأت تعرض عنه "نتفليكس" فيلماً وثائقياً بعنوان ".Sr" (بالعربية: "روبرت داوني الأب")، من إخراج صاحب American Movie كريس سميث. ويشمل طاقم الفيلم، بشكل رئيسي، روبرت داوني سينيور، الذي رحل سنة 2021 بعد أن كان قد أنهى تصوير مشاهده، وابنه الممثل روبرت داوني جونيور.
يعرض الفيلم أحداثه في سياق عفوي، تلقائي، لا خصوصية، ولا وجود للكواليس، إذ إن مشاهد الفيلم والإرشادات الإخراجية، وصولاً إلى عملية المنتجة الأخيرة، تُنَاقش وتُبنَى وتُؤَسس في اللحظة نفسها أمام عدسة الكاميرا. وبناءً على رغبة الأب في إخراج نسخته من هذا الفيلم برؤيته الخاصة، فإن المُشاهد يجد نفسه أمام رؤيتين إخراجيتين للفيلم. الرؤية العامة والأساسية للمخرج كريس سميث، التي تصور حياة الأب وتعرض بعض أعماله، وتسلط الضوء على علاقته بابنه روبرت جونيور. والرؤية الخاصة بالأب، وفيها يفرض أسلوبه الإخراجي، ويكشف عن طريقته في بناء لقطاته.
في الرؤية العامة، يطغى البعد النفسي الكاشف عن مكنونات النفس وأسرارها، وتحديداً عند إثارة ما له علاقة بفترة إدمان الأب روبرت سينيور على المخدرات، وكيف أنها كانت ستودي بحياته المهنية، والأخطر أنها كانت ستقضي على ابنه روبرت جونيور عندما كان يعتقد بضرورة تجريب طفله المخدرات.
تتصاعد حدة الأحداث عندما يستمر روبرت جونيور في توجيه نقده وأسئلته إلى الأب سينيور، الذي يكتفي، بدوره، بالهمهمة والموافقة، أو يتم إحراجه لدرجة يضطر معها إلى عدم القدرة على إتمام الحديث. تتخطى مكالمتهما الأحاديث العادية وتبادل الأخبار. تكثر مثل هذه الحوارات والمواجهات في مشاهد مكالمة تطبيق زوم. على الطرف الأول من المكالمة، الابن، الذي يود البوح والمصارحة وحديث النفس مع النفس. تختفي هذه المودة عندما يعيد إحياء ذكرى فاشلة وقاسية على مسامع الأب سينيور، مثل ذكرى تجربته الفاشلة مع أول استديو سينمائي، أو أن يذكره بزوجته الثانية التي ماتت بسبب مرض التصلب اللويحي، وكم أنه، أي روبرت جونيور، يتمنى لو كانت هناك فرصة ليساعدها.
بينما على الطرف الثاني من المكالمة، هناك يجلس الأب سينيور الهرم، بالرعشة التي لا تفارق جسده المتهالك. لكن، هناك ضحكة لم تتمكن من محوها كل السنوات، ولكأنه يبدو عندما نشاهده أنه على حافة الثمالة، ولكن من دون أن يشرب. كل ذلك، وتوكيدات الأب سينيور، المتواصلة طوال الفيلم بندمه على تجربة المخدرات، وأنه لا ينصح أحدا بتجربتها، لم تشفع عند جونيور الابن بعدم وضع سينيور الأب في قفص الاتهام أكثر من موضع، مثلما أشرنا سابقاً.
تمر في إحدى المواقف الانفعالية في الفيلم لحظة، يهمس فيها سينيور خلال مكالمته مع روبرت جونيور عبارة: "إنه خليط من الألم، لذا علينا محاولة التنفيس". وكأن الأب سينيور يطمئن الابن بأنه لن يغضب منه بسبب طريقته الدفاعية والانتقامية أحياناً في الحوار والحديث والتعبير عن الماضي، وأنه يسمح له بقول كل ما يريد ولسان حاله: هذا الفيلم عني ولكنه لك. إنه لك.
في عام 2021، وبعد مضي أكثر من ساعة على بداية الفيلم، ستتراجع قدرة الأب سينيور على الحركة بشكل كبير، نتيجة الباركنسون، وينقل صنّاع الفيلم معدات المونتاج إلى غرفة نومه، يظل مستلقياً على السرير، وقبالته الشاشة، يشرف على ختام فيلمه الخاص، قبل أن يطلب إضافة مشهد أخير له، يتضمن أغنية أداها روبرت جونيور، وبعد أن ينتهي من الأغنية، يومئ الأب سينيور من على سريره مبتسماً معلقاً: "يبدو ذلك نرجسياً على نحو جميل.. كررها".
ينتهي الفيلم بعد نهاية كل شيء. يموت المخرج سينيور على فراشه آمناً على نسخته الخاصة من الفيلم. بينما يفحمنا صاحب أعلى أجر في العالم، الممثل روبرت داوني جونيور، من على أرجوحته وسط الغابة، قبل النهاية بقليل بأن الذي تعلمه: "نحن نأتي إلى الدنيا، نعيش فيها، ثم نرحل عنها".