رحيل لاري كينغ... ظاهرة "سي أن أن" الصاخبة

26 يناير 2021
عرف كينغ بمظهره وملابسه ومقابلاته وزلاته (جوردان ستروث/Getty)
+ الخط -

بعد مرور عشر سنوات على إعلانه التوقف عن تقديم برنامجه الشهير Larry King Live في ديسمبر/كانون الأول 2010، توفي أسطورة البرامج الحوارية ونجم شبكة "سي أن أن"، لاري كينغ، مساء السبت الماضي، عن عمر ناهز الـ 87 عاماً. وأعلنت شركة أورا ميديا Ora Media التي شارك كينغ في تأسيسها، الخبر على تويتر عقب الوفاة، موضحةً أن كينغ كان قد دخل المستشفى مطلع العام الجاري متأثراً بإصابته بفيروس كورونا، وبعد تحسن طفيف، تدهورت حالته الصحية من جديد. واعتبرت "أورا ميديا" في بيانها أن "آلاف المقابلات التي أجراها لاري كينغ والجوائز التي نالها والتقدير العالمي الذي حظي به على مدى 63 عاماً أمضاها في الإذاعة والتلفزيون ووسائل الإعلام الرقمية، لهي دليل على موهبته الفريدة إعلامياً".

ترك لاري كينغ وراءه سجلاً يضم أكثر من 40 ألف مقابلة أجراها منذ عام 1985. ولم يمرّ على البيت الأبيض أي رئيس أميركي منذ ريتشارد نيكسون، إلا أجرى لاري كينغ مقابلة معه، إما بعد انتهاء ولايته وإما قبلها، كما كانت الحال مع جورج دبليو بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب. ومن برنامجه، أعلن الرئيس الراحل جاك شيراك عام 1995 خفض عدد التجارب النووية الفرنسية في المحيط الهادئ.

وعلى مدى الأعوام الخمسة والعشرين التي قدّم فيها برنامجه الحواري، كان يحرص على التعاطي مع ضيفه بحرارة وبأسلوب شبه حميمي، بل حتى بشيء من المجاملة. وكان للاري كينغ هندامه المميز الذي طبع ذاكرة المشاهدين، إذ عُرِف بنظارتيه الكبيرتين، وأكمام قميصه الملفوفة باستمرار، وربطات العنق المتعددة اللون التي كان يضعها، وبسراويله ذات الحمّالات.

ترك لاري كينغ وراءه سجلاً يضم أكثر من 40 ألف مقابلة أجراها منذ عام 1985

فعلى مدى 25 عاماً كاملة، كان لاري كينغ، إلى جانب المراسل السياسي وولف بليتزر، النجم الكبير لقناة "سي أن أن" بلا منازع، خاصة بعد المكانة الكبيرة التي احتلها برنامجه التلفزيوني الأشهر Larry King Live على القناة الإخبارية بدءاً من 1985 وحتى 2010، ليصنع منه أكبر برنامج حواري مباشر في الأسبوع. وعلى الرغم من أن كينغ بدأ حياته المهنية مضيفاً إذاعياً عام 1978 في برنامج The Larry King Show، إلا أنه استطاع من خلال برنامجه التلفزيوني هذا أن يدخل موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية، بوصفه المحاور الذي أمكنه البقاء في المقعد ذاته لأكثر من 25 عاماً، ما يعني "خلوداً" في عالم الإعلام. وقدم كينغ خلالها ما يقرب من خمسة آلاف مقابلة تلفزيونية، وسجل أكثر من ستة آلاف عرض لصالح شبكة "سي أن أن" الإخبارية، وقضى في المجمل 55 عاماً في العمل الإعلامي.

ولد لاري كينغ لأب أوكراني وأم ليتوانية في نيويورك عام 1933، ليحمل اسم لورانس هارفي زايغر، وبدأ حياته المهنية كمنسق دي جي في محطة إذاعية محلية في ميامي، حيث قدم نفسه في عام 1957 قائلاً للمستمعين جملته الإذاعية الأولى: "صباح الخير، هذا هو أول يوم لي على الراديو، ولقد حصلت للتوّ على اسم جديد، اسمي لاري كينغ. إنها المرّة الأولى التي أنطق فيها هذا الاسم، وأنا الآن مذعور من رهبة الأمر". ليحصل بعد ذلك على فرصة لكتابة عمود في صحيفة "ميامي هيرالد" عام 1965، إلى أن تم القبض عليه في جريمة سرقة، وفقد على إثر هذه القضية وظيفته في كل من الراديو والصحيفة، لكنه حصل على فرصة أخرى بعد ذلك بست سنوات، تمثلت في تقديم برنامج إذاعي آخر في ميامي عام 1978، لينتشر كصوت إذاعي مميز، ويبث برنامجه في 128 مدينة أميركية. 

وكان أول ظهور مباشر لكينغ على "سي أن أن" في 3 يونيو 1985، في السنوات التي تلت ذلك، اخترقت القناة الإخبارية العالم بنقلها تطورات عملية عاصفة الصحراء بعد غزو الكويت، واستمرت "سي أن أن" في انتشارها الدولي مع غزو أميركا للعراق عام 1991، ليصبح برنامج لاري كينغ على تماس يومي مع تطور الأحداث في العراق، حيث يظهر كينغ على الشاشات يومياً أمام ميكروفون راديو قديم مع خريطة العالم في الخلفية.

كان للاري كينغ هندامه المميز الذي طبع ذاكرة المشاهدين، إذ عُرِف بنظارتيه الكبيرتين، وأكمام قميصه الملفوفة باستمرار، وربطات العنق المتعددة اللون التي كان يضعها، وبسراويله ذات الحمّالات

الكرة الليّنة
استخدم لاري كينغ في برنامجه الحواري أسلوباً إعلامياً مختلفاً عن مجايليه، فلم يعتنِ كثيراً بتحضير أسئلته أو الاطلاع على سير ضيوفه، حتى أطلق النقاد على برنامجه لقب "برنامج إذاعي على التلفزيون"، وهو القول الذي قلبه لاري كينغ إلى مديح قائلاً: "نعم، برنامج إذاعي لأن أسئلتي غير المعدة سلفاً تجبر الضيوف على التفكير". 

وكانت طقوس برنامجه نفسها كل مساء: من الاستوديو الخاص به في واشنطن، كان لاري كينغ يطلّ على الشاشة وفي الخلفية أضواء المدينة، ويحاور ضيفه بأسلوب غير متوتر، قبل أن يجيب الضيف في الجزء الثاني من الحلقة عن الأسئلة التي ترده بالهاتف من كل أنحاء العالم. وكان البرنامج يُعرض ست مرات في الأسبوع، ويشاهَد في أكثر من 200 دولة. وتجاوز عدد مشاهدي لاري كينغ المليون كل ليلة، مما جعله نجم القنوات الفضائية وسمح له بالتفاوض على راتب يتجاوز سبعة ملايين دولار سنوياً.

ولطالما افتخر كينغ بنفسه لأنه "يعرف قدره لدى المشاهدين"، ونادراً ما سعى إلى المواجهة العنيفة مع ضيوفه، معللاً ذلك بقوله: "أريد أن أجعل ضيوفي مرتاحين معي، لأني أريد أن أتعلّم منهم، ولن يمكنني التعلّم عن طريق الهجوم عليهم". فيما رأى معارضوه أن دفاعه مجرد من المعنى، وأطلقوا عليه اسم الكرة اللينة Softball، فهو في رأيهم ضعيف الشخصية، لم يملك الشجاعة الكافية لتوجيه الأسئلة الشائكة أو النقد إلى ضيوفه من المشاهير والزعماء السياسيين. واتهموه أنه حتى لا يقوم بتحضير حلقاته جيداً، وهو ما لم ينكره كينغ، بل قال إنها فعلاً طريقته في تقديم برنامجه، ألا يعد أسئلة أو يقرأ المعلومات الكافية عن ضيوفه. وهو النهج الذي امتدحه آخرون لدى لاري كينغ، فقد جعله عدم التحضير هذا أكثر عفوية في حواره مع من يستضيفهم، وأصبح متحرراً من الأسئلة المعدة سلفاً، لكنه أيضاً جعله عرضة للخطر. وهناك عشرات اللحظات التي أخطأ فيها لاري كينغ، وصارت هذه الأخطاء من كوارث الإعلام الأميركي وزلّاته الأشهر. ومن هذه الأخطاء ما وقع بين كينغ والممثل الكوميدي جيري سينفيلد، إذ لم يكن لاري على علم بأن سينفيلد ترك برنامجه الشهير، ما دفع سينفيلد إلى السخرية من كينغ قائلاً في ذهول: "أهذه لا تزال سي أن أن؟" ثم موجهاً كلامه إلى كينغ: "أتعرف من أنا يا لاري؟ هل يمكن لشخص ما هنا أن يحضر سيرة ذاتية لي حتى يعرف لاري مع من يتحدث"؟

أخطاء وزلّات عُرفت بها بعض لقاءات لاري كينغ الذي لُقّب بـ"ملك المقابلات"، وكان برنامجه على "سي أن أن" يُعرض ست مرات في الأسبوع، ويشاهَد في أكثر من 200 دولة

لم تكن أخطاء لاري كينغ كلها مضحكة أو محبطة للبعض كما في المثال السابق، بل كانت أحياناً مؤلمة. ومن هذا ما حدث حين استضاف كينغ ديبرا تيت، شقيقة الممثلة الأميركية شارون تيت، والتي لقيت مصرعها على يد أتباع تشارلز مانسون في أغسطس/آب عام 1969. أخطأ كينغ في ما تعرفه أميركا كلها عن ملابسات مقتل الممثلة الشابة، والتي كانت زوجة المخرج الشهير رومان بولانسكي وحامل في طفلهما الأول آنذاك، عندما اعتقد كينغ بطريق الخطأ أن بولانسكي هو قاتل زوجته، في جهل فاضح وضعه كإعلامي شهير في موقف لا يحسد عليه. لتتوالى أخطاء كينغ واحدة بعد أخرى، ومنها حين أخطأ في اسم المغني الإنكليزي الشهير رينغو ستار وناداه باسم "جورج"، وزايد على سنّه أمام الجمهور، ليغضب ستار ويقول لكينغ ساخراً: "وكم تبلغ أنت من العمر، 102"؟!

هي فعلا أخطاء فادحة، أو بالأحرى "زلّات" إعلامية لا تُغتفر، ما جعل كينغ وبرنامجه هدفاً سهلاً للبرامج الساخرة مثل Saturday Night Live، لكن كينغ ظل يدافع عن نفسه قائلاً إنه: "كان فناناً بالإضافة إلى كونه محاوراً"، مبرراً ذلك في موضع آخر بقوله: "يحتاج الناس إلى الترفيه". وفي عام 1992، نشر كينغ كتابه "كيف تتحدث إلى أي شخص، في أي وقت وفي أي مكان" (How to Talk to Anyone, Anytime, Anywhere) وقال فيه إن "الطريق إلى النجاح، اجتماعياً أو مهنياً، ممهد بالمحادثات".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

لقاءات تاريخية
على الرغم من  الأخطاء التي أحاطت بمسيرة لاري كينغ الإعلامية، إلا أن مقابلاته مع عدد لا يحصى من السياسيين وصنّاع الرأي ونجوم السينما العالميين، أصبحت توصف مع الوقت بـ"التاريخية"، ذلك لأن كينغ جمع في برنامجه أسماء من الصعب أن يصل إليها إعلامي أميركي آخر. من فلاديمير بوتين وفرانك زابا وتايغر وودز وياسر عرفات وفرانك سيناترا ومونيكا لوينسكي ودونالد ترامب وغيرهم، وصولاً إلى المشاهير من نجوم الفن والسينما والرياضة. فمن ينسى لقاءه النادر مع مارلون براندو عام 1994، حين ظهر براندو في منزله حافي القدمين؟ كان هذا الظهور في حد ذاته ضربة إعلامية كبرى للاري كينغ، مع أشهر ممثل أميركي لا يحب المقابلات، حتى أن براندو أنهى لقاءه مع لاري كينغ يومها بطبع قبلة على شفتيه! ومَن من الإعلاميين الأميركيين اليوم يستطيع أن يقول إنه استضاف جميع الرؤساء منذ ريتشارد نيكسون، باستثناء لاري كينغ نفسه، الذي استضاف سبعة رؤساء أميركيين؟ وفي عام 2009 سأل كينغ الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد ثلاث مرات عما إذا كانت المحرقة حقيقية أم "خرافة كما يعتقد الكثير من الإيرانيين"، لكن أحمدي نجاد ظل على رفضه الاعتراف في النهاية بالهولوكوست.

وقبل أن يعلن لاري كينغ اعتزاله وتوقف برنامجه الشهير، كان في ذلك الأسبوع قد أجرى مقابلات مع  عدد من المشاهير، من بينهم بيل غيتس الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، وباراك أوباما الرئيس الأميركي آنذاك، ومغنية البوب ليدي غاغا. وكانت مقابلات لاري كينغ هذه تتم على الدوام وهو يرتدي ثيابه المعتادة: نظارته الثقيلة وأكمام قميصه المطوية بعناية وحمالات بنطاله التي صارت سمة له على مدى 25 عاماً. صنعت هذه التفاصيل من لاري كينغ شخصية أيقونية في الإعلام الأميركي، خاصة حمالات البنطال التي بدأ لاري يستخدمها بعد إجرائه عملية جراحية لإنقاص وزنه، وكانت الحمالات اقتراحا من زوجته ليبدو في برنامجه بمظهر جديد ومختلف.

عام 2010، غادر لاري كينغ قناة "سي أن أن"، وواصل مقابلاته على موقعه الخاص قبل أن يوقع عقداً مع قناة "روسيا اليوم" الحكومية عام 2013

في عام 2010، مع تراجع عدد مشاهديه، غادر لاري كينغ قناة تيد تيرنر، وواصل مقابلاته على موقعه الخاص قبل أن يوقع عقداً مع قناة "روسيا اليوم" الحكومية عام 2013. وكان اعتزاله الإعلامي كي ينقذ زواجه أيضاً. فعلى الرغم من صلابة كينغ في حياته المهنية، إلا أنه تعرض للعديد من المشاكل في حياته العاطفية، فتزوج ثماني مرات، وله خمسة أبناء، توفي اثنان منهم العام الماضي في غضون أسابيع قليلة. فمات ابنه آندي بنوبة قلبية عن عمر 65 عاماً، وتوفيت ابنته شايا متأثرة بإصابتها بسرطان الرئة عن 52 عاماً. كلها خسائر شكلت ضربات قاصمة للرجل الذي يعاني منذ سنوات من متاعب صحية كبيرة، بدأت في عام 1987 بخضوعه لعملية جراحية صعبة. وفي عام 2017 خضع لعملية جراحية لاستئصال سرطان الرئة. وفي العام الماضي عانى من مشاكل في القلب مرة أخرى، ليتم نقله في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى مستشفى في لوس أنجليس مصاباً بكورونا. لتنتهي بذلك مسيرة أحد ألمع وجوه الإعلام الأميركي في العقود الخمسة الأخيرة، وأكثرهم إثارة للجدل أيضاً.

المساهمون