رحيل علي عبد الخالق: أفلامٌ تعاين أحوالاً والسينما حاضرةٌ أحياناً

05 سبتمبر 2022
علي عبد الخالق والممثلة أميرة فتحي في مناسبة سينمائية عام 2006 (عمرو مراغي/Getty)
+ الخط -

 

مُزعجٌ البحث عن السيرة المهنية، على الأقلّ، لراحلٍ عربيّ، له حضورٌ في المشهد العام. الجمعة، 2 سبتمبر/أيلول 2022، تُعلَن وفاة المخرج المصري علي عبد الخالق، والوفاة حاصلةٌ بعد أقلّ من 3 أشهرٍ بقليل على احتفاله بعيد ميلاده الـ78 (9 يونيو/حزيران 1944). الاستعانة بـ"ويكيبيديا" العربية، أو بموقع مصري، يُفترض به أنْ يكون متخصّصاً بالسينما، غير نافعةٍ دائماً، فالمعلومات قليلة وعادية، ويُخشى الركون إليها، في الأوقات كلّها، إذْ يغيب المؤكّد عنها، غالباً.

رحيل عبد الخالق، نتيجة إصابته بمرض سرطانيّ، يُثير سؤال المعلومات العربية المؤكَّدة، في شؤون عامّة، وعن شخصيات معروفة. هذا يعني أنّ الكتابة في رحيلٍ أو مناسبةٍ تحتاج إلى ذاكرةٍ فردية، أو إلى كُتبٍ، إنْ تكن هناك كتبٌ عربية مُفيدة، توثيقاً وسيرةً ومذكّرات. الذاكرة الفردية تُصاب بثقوبٍ أحياناً، وهذا طبيعي. لكنّ الذاكرة الفردية غير كافية، لوحدها، لكتابةٍ سليمة؛ والكتب المُفيدة نادرةٌ، والصادر منها عن دور نشر مختلفة، يصعب العثور عليه في مكتباتٍ عربية، فالتوزيع معطوبٌ.

تَذكّر أفلامٍ له، لحظة قراءة نبأ رحيله، يحتاج إلى وقتٍ، والبحث عنها، أو عن بعضها، في موقعٍ للقرصنة، أو "يوتيوب"، أو ما يُشبههما، شاقٌ، فالكتابة في مناسبة كهذه غير قادرة على الانتظار طويلاً، لأنّ المهنة متطلّبة، رغم أنّ العجلة غير مُحبَّبة. أفلامٌ لعلي عبد الخالق حاضرةٌ في ذاكرة فردية، وأخرى تبقى بعيدة عن التذكّر، وهذا يعني أنّ الكتابة تتناول الأفلام الأشهر له، لشدّة مثولها في وجدان وعقل وتفكير، ما يُلغي عن الكتابة تميّزاً مطلوباً يُحرّرها من تكرارٍ، يُقرّبها من كتابات أخرى.

أي أنّ أفلاماً لعبد الخالق تحضر في كتابات عدّة، تميل إلى رثاءٍ ووداعٍ: "أغنية على الممرّ" (1972)، و"العار" (1982)، و"الكيف" (1985)، و"إعدام ميت" (1985)، و"جري الوحوش" (1987)، و"بئر الخيانة" (1987)، و"درب الرهبة" (1990)، مثلاً، تُشكِّل نواة أساسية لكتاباتٍ، تهتمّ بالأشهَر والأكثر حضوراً في ذاكرة عامّة. هذا لن يُلغي أهمية الاشتغالات السينمائية لعلي عبد الخالق، في هذه الأفلام وفي غيرها، خاصة بالنسبة إلى اهتمامه بالصراع مع إسرائيل، المتمثّل في أكثر من فيلمٍ، والمُعالَج بأكثر من طريقة. فـ"أغنية على الممرّ" عائدٌ إلى حرب الأيام الستة، أي نكسة 67، بحثاً في نفوسٍ وانفعالاتٍ لأناسٍ يدافعٍون عن أرضٍ وبلدٍ، ويعيشون ذكريات وخيباتٍ وآلام وتمنّيات؛ بينما يُعاين "بئر الخيانة" مسألة التجسّس لـ"الموساد" الإسرائيلي، تماماً كـ"إعدام ميت"، مع اختلافٍ في التناول، الدرامي والسرديّ والاجتماعي والسياسي، للعلاقة المصرية بإسرائيل: في الأول، يُجنَّد مواطنٌ مصري، هارب إلى إيطاليا، في الاستخبارات الإسرائيلية؛ والثاني يروي حكاية القبض على عميل مصري، قبل انصراف النصّ إلى سرد حكاية التجسّس المصري، أو بالأحرى محاولة التجسّس على المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونا.

 

 

غير أنّ علي عبد الخالق غير مرتبطٍ بهذا النوع السينمائي فقط. أحوال الاجتماع والعائلات المصرية، تعثر في بعض أفلامه على نماذج لها، يُمكن اعتبارها مرايا، تكشف شيئاً من واقعٍ وحالاتٍ وعلاقات، وتسبر أغوار نفسٍ فردية، باشتغالها على الواقع والحالات والعلاقات. "الكيف" مثلاً يبدأ نصّه السينمائي من داخل عائلةٍ، يُفترض بها أنْ تعكس صورة ما عن طبقةٍ وسطى، كاشفاً تناقضاً يحصل بين شقيقين، كما يحصل في عائلاتٍ وبيئات مختلفة. "الامبراطورة" (1999)، مثلاً، يُكمِل نصّاً يجمع بين العائلة والمخدّرات، كـ"الكيف"، فالخادمة، التي يخدعها ابن مخدومتها، تُقرّر ثأراً من حالتها، فتنتفض على الفقر عبر تجارة المخدّرات، بينما يُصبح ابن المخدومة ضابطَ شرطةٍ، معنيّاً بمكافحة المخدّرات.

وإذْ يعكس عبد الخالق أحوالاً كهذه في بعض أفلامه (المجتمع، البيئات الفقيرة والصغيرة، العائلة، العلاقات الأسرية، المخدّرات، إلخ.)، فهذا غير معنيّ البتّة بتحليل سوسيولوجي ـ نفسي عبر الصورة السينمائية ـ مع أهمية سماتٍ كهذه، تحضر في سياقات درامية وجمالية وسردية ـ بقدر انبثاقها الأساسيّ من احتكاكٍ له ببيئته ومجتمعه وناسه، مستعيناً بحساسيةٍ وتفكيرٍ وتأمّل، ومرتكزاً على أهمية تبسيط المفردات السينمائية في مقاربة المسائل.

تحليلٌ كهذا يحضرُ في مسام النصّ السينمائي وفضاءاته الفنية والحكائية والحياتية، من دون إسرافٍ في تسليط التحليل على البنية الدرامية والقصصية والإنسانية للنصّ الفيلمي، وهذا الإسراف غير مرغوبٌ فيه أصلاً. تحليلٌ كهذا يُمكن مراقبته في أفلام إسرائيل، حرباً ضدها أو عمالة لاستخباراتها ومواجهةً لها، إذْ يُمرِّر علي عبد الخالق ملاحظات، اجتماعية ونفسية وفكرية، بمواربةٍ وخفرٍ، غالباً.

في "الكيف"، تنفصل مسارات شقيقين إلى حدّ التناقض، بين علمٍ وحياة يُراد لها أنْ تكون متواضعة وهادئة، رغم مصائب وانهيارات حولها، وعيشٍ في عالمٍ سُفليّ، مليء بالمخدّرات والتفاصيل المنبثقة منها. "جري الوحوش" يتناول العائلة أيضاً، مختاراً مأزقاً مختلفاً عن ذاك الذي تعانيه عائلة "الكيف". فالعقم عطبٌ بيولوجي، والعلم قادرٌ على مواجهته بهدف إيجاد حلّ له. الاجتماع، بثقافته وأخلاقه وتديّنه، يُعاند في قبول العلم، والعلم يُصرّ على اختبار ابتكاراته، فهذه الأخيرة مصنوعة للناس.

تحليلٌ كهذا غير كافٍ. في بعض أفلام علي عبد الخالق ما يُثير متعة مُشاهدة، تُضاف إلى معاينةٍ متواضعة لبلدٍ وأناس. عيشُه اختبارات وتحوّلات (لن تكون إيجابية كلّها) في مسار بلده ومجتمعه وحياة ناسه، تمرينٌ على معاينةٍ وتفكيكٍ، لعلّهما يحتاجان إلى أكثر من المصنوع في سينماه. اختبارات وتحوّلات يشهدها منذ شبابه، بدءاً من العدوان الثلاثي على مصر (1956)، والمسار المرتبك وغير السوي في تاريخها الحديث، مع الانقلابات المختلفة والمتناقضة في السياسة والاقتصاد والحياة اليومية.

المساهمون