ليس سهلاً، لحظة إعلان وفاته، تَذَكّر أدوار سينمائية للممثل اللبناني عبد الله حمصي (1937 ـ 2023)، رغم قلّتها، إذ لا أدوار بطولة أولى أو ثانية له، مع أنّ مروره "العابر" في أفلامٍ لبنانية يُثير انتباهاً، ويعكس ما لديه من براعةٍ، فنية وتقنية ودرامية، في تأدية ما يُطلب منه بجماليّة واضحة. فالغلبة للكوميديات التلفزيونية، ولبعض المسرح، بالنسبة إلى روّاده، حصّة وفيرة، غير خارجة كلّها عن الكوميديا المبسّطة والمسلّية، والمفيدة أيضاً، لأنّه، في غالبية الإنتاجات المُشارِك فيها، يمنح شيئاً من طيبة وحُسن نيّة في عالمٍ غارق بفسادٍ وقهر وآلام. طيبة وحُسن نيّة غير مانِعَين صدقاً ووضوح رؤية إزاء عيشٍ وحياة وعلاقات.
عبد الله "أسعد" حمصي، أحد أعضاء "فرقة أبو سليم الطبل"، سيكون الأبرز بين زملائه المشاركين فيها، بتمثيله ما يتجاوز الكوميديا، فيتفوّق، بما لديه من ملامح ولكنةٍ وقدرة على تعبيرٍ صامت، في أداء شخصيات مُسرفة في واقعية الاختناق والحصار والقلق، تماماً كزميله محمود "فهمان" مبسوط، الذي، مثله، يصعب تَذَكّر أدوار سينمائية له، رغم قلّتها أيضاً، ورغم ما لدى فهمان، هو أيضاً، من قدرات تمثيلية غير مُستَثْمرة كفايةً، وهذا إجحافٌ، ربما غير مقصود، لكنّه حاصلٌ.
وأسعد، إذ يتمكّن من خروجٍ آمنٍ من "فرقة أبو سليم الطبل"، بين حين وآخر، مؤدّياً بطولات تلفزيونية مختلفة، يعكس شيئاً من روعة التمثيل، في زمنٍ شاهدٍ على ندرة قنوات/محطات تلفزيونية، وكثرة اشتغالاتٍ، معظمها يُجرِّب أشكالاً ومواضيع ومعاينات درامية، ويختبر كيفية التمثيل العفوي والارتجالي في بثّ مباشر، قبل مرحلة التصوير. والبراعة، المنبثقة من صدقٍ وشفافية وعفوية، كامنة في تطوير يتّضح، ولو ببطء، بين برنامج وآخر، وبين مسلسل وآخر، وبين دور وآخر، وأحياناً (وإن نادراً) في الشخصية الواحدة في المسلسل الواحد أيضاً.
كلامٌ كهذا يُقال مراراً، لكنّ سخريةً مملّة يواجهها، فمتفذلكون ومتفذلكات، في عصرٍ بشعٍ كالذي يمرّ حالياً، يظنّون أنّ هذا الماضي التلفزيوني اللبناني هراء وبائخ وغير نافع، وأنّ "جماعتي" أبو سليم وأبو ملحم، تحديداً، غير نافعتين في شيء، مع أنّ هاتين "الجماعتين"، رغم أخطاء متأتية من تلك اللحظة التأسيسية، واللاحق عليها، تُشكّلان جزءاً أساسياً من حكاية بلدٍ واجتماع وأناس. فالبلد مرتبك، وبعض الاجتماع على الأقلّ يحاول إيجاد صيغ عيشٍ خارجةٍ على قبائل متحكّمة بالبلد والاجتماع والناس، وهؤلاء يريدون ترفيهاً "نقيّاً"، وأعمالاً صادقة، و"إرشادات" مبطّنة تواجِه خراباً متفشّياً حينها، فالبلد غير صالحٍ منذ تأسيسه الأعوج (1943).
هذا كلّه (الترفيه والصدق والإرشادات المبطّنة) غير حائلٍ دون أعمالٍ متنوّعة، تمنح "تلفزيون لبنان" (أياً تكن أسماؤه حينها) شيئاً من أصول عملٍ تلفزيوني مُفيد، سيتطوّر لاحقاً، وأرشيف هذا التلفزيون، إنْ يكن محفوظاً بكامله، وهذا مشكوكٌ فيه، يؤكّد ذلك. أسعد صانع فصلٍ مهمّ من ذاك الأرشيف/التاريخ (تاريخ بلدٍ واجتماع وأناس)، وانتقاله إلى السينما منبثقٌ من رؤية مخرجين (لا توجد مخرجات لأفلامٍ يُشارك فيها، إنْ لم تخنّي الذاكرة) ما يمتلكه من مقوّمات أدائية، أبرزها، كما أظنّ، كامنٌ في تلك الملامح المتمكّنة من تقديم قسوة غضب وتعب وألم، ونتفٍ من غباء غير متجذّر في ذاتٍ وعقلٍ، أو لعلّه ادّعاء غباءٍ لضرورات درامية، فغباء أسعد محرِّض على اكتشافات وفهمٍ ومتابعة في سياقات سردية متنوّعة.
ملامح تُقدِّم أيضاً بهاء نظرةٍ إلى آخر، أو إلى مدينة، و"دويك يا دويك" (1973) لباسم نصر، مثلاً، أحد الأعمال اللبنانية القليلة، تلفزيونياً وسينمائياً، المُلتَقِطة بيروت عشية أحد فصول خرابها، المادي والروحي، أي حربها الأهلية (1975 ـ 1990). "دويك يا دويك" يُشبه، بالتقاطه بيروت السابقة على موتٍ جديدٍ لها، "بيروت يا بيروت" (1975) لمارون بغدادي (1950 ـ 1993). لهذا التشابه حقّ في قراءة نقدية مستقلّة. فالتجوّل بالكاميرا في مناحٍ مختلفة من المدينة، الذاهبة إلى حتفها، متشابهٌ بين المسلسل والفيلم، وتحديداً في ذاك التوثيق البصري العفوي، ربما، لعمارة وشوارع وأناسٍ، ولحالاتٍ تنفضّ، ولو قليلاً، عن غليان مبطّن يحصل حينها في روح المدينة وجسدها ("دويك يا دويك"، إلى حدّ ما)؛ ولحالاتٍ تعيش الغليان، وربما تصنعه، من دون إدراك حاسمٍ بأنّ الغليان نفسه سينتهي في اندلاع حربٍ أهلية (بيروت يا بيروت).
أسمح لنفسي بالذهاب إلى أبعد من ذلك، فأكتب أنّ أسعد سيكون، في مسلسله هذا، مُرادفاً سابقاً لكلّ من كمال (عزت العلايلي) وهالة (ميراي معلوف) تحديداً، في أول روائي طويل لمارون بغدادي. كأنّه، بتجوّله "الريفيّ" في المدينة، بكلّ ما فيه من براءة وصدق وعفوية ودهشة واكتشاف وبحثٍ عن أي شيءٍ وكلّ شيءٍ، ربما، غير مختلفٍ عمّا يعيشه أناسُ "بيروت يا بيروت"، في بحثٍ عن خلاصٍ، أو عن انقلابٍ، أو عن تغيير، والتوثيق البصري، في الفيلم، شبيهٌ، إلى حدّ ما، بتوثيق المسلسل لتلك المدينة الـ"راكضة" إلى خرابها/موتها.
مشهد من "زنّار النار" (2004)، للّبناني بهيج حجيج، الذي يبثّه على صفحته الفيسبوكية تحيةً لحمصي في رحيله، كافٍ لتبيان ذاك الكمّ الجميل والعميق والرائع الذي يحمله أسعد في ذاته وروحه، مؤدّياً دور بائع قهوة متجوّل، زمن حربٍ أهلية لبنانية. دقائق قليلة تكشف بعض المخزون الأدائي الرائع لممثل، لن تمنحه السينما اللبنانية ما يستحقّه من موقع ومكانة. فيلما المصري هنري بركات، "سفر برلك" (1967) و"بنت الحارس" (1968)، تأكيدٌ على ما يمتلكه من مفردات أداءٍ، يريد (الأداء) مزيداً من حرية اشتغال واتّساعه، لكنّه يُحصَر في أدوار ثانوية.
المزعج أيضاً أن لا صُور فوتوغرافية لأسعد، مستلّة من أفلامٍ ومسلسلات وأعمال تلفزيونية له، تصلح لنشرها مع مقالةٍ، تكون قولاً في حبّه وحبّ أدائه التمثيلي. مواقع مختلفة تنشر صُوراً غير لائقة باشتغالاته ونمط تمثيله، وغير صالحةٍ للنشر. لذا، مُضطرّ لنشر صورة عن بيروت قبل اندلاع موتها، تلك التي يحاول أسعد/دويك استيعابها في زمنٍ، يُقال إنّه أجمل من الراهن.
أكتبُ هذا وأسأل: من أين يحصل أسعد على المقتنيات الأساسية لتمثيلٍ يمتلك سحراً من دون إظهاره كلّه؟ ليس سؤالاً متعالياً، بل رغبةً في فهم معنى العفوية والصدق والشفافية في امتلاك جمالٍ في الأداء، يندر أن يُشاهَد في أعمال تلفزيونية لبنانية وعربية حالياً. والمقتنيات تلك، إذ تنشأ بعفوية وصدق وشفافية، مع اشتغال على الذات واضح وأكيد، تمنح أسعد موقعاً ومكانة أقوى وأعمق في ذاتٍ فردية، وذاكرة جماعية.