في المهرجان الدولي للأفلام الوثائقية في طهران، الذي أقيمت دورته السابعة عشرة الشهر الماضي، كانت غزة حاضرة من خلال جائزة فازت بها المخرجة الفلسطينية رحاب نزال التي تلقى أفلامها احتفاءً نقدياً بالغاً على مستوى العالم.
رحاب نزال وذبذبات من غزة
اسم الفيلم الفائز هو "ذبذبات من غزة" (Vibrations from Gaza). وثائقي قصير يقدم لمحة عن تجارب الأطفال الصم الذين وُلدوا ونشؤوا في ظل حصار الاحتلال الإسرائيلي والعدوانات المتكررة التي يشهدها القطاع الفلسطيني.
يضم الفيلم روايات حية عن كيفية مواجهة هؤلاء الأطفال للقصف والتحليق المستمر للطائرات من دون طيار في سمائهم، إذ يصف أطفال مثل موسى وأماني وإسراء الضربات الصاروخية من خلال إحساسهم باهتزازات الهواء، وارتعاش الأرض، وصدى المباني المنهارة. يتساءل الفيلم أيضاً عما إذا كان صمم أطفال غزة طبيعياً، أم نتيجة لاستعمال الاحتلال غزة بوصفها حقل تجارب بغرض اختبار أسلحة صوتية جديدة.
وفق رحاب نزال لم يكن إنتاج "ذبذبات من غزة" سهلاً، إذ رفضت سلطات الاحتلال دخولها إلى غزة عبر الضفة الغربية، ما أجبرها على السفر إلى المدينة الساحلية عبر مصر. وبدلاً من ساعة واحدة، استغرق الوصول إلى القطاع ثلاثة أيام. جاءت فكرة الفيلم في مايو/آيار 2021 بعد أسبوع واحد من العدوان الإسرائيلي على غزة. وقررت المخرجة السفر مرة أخرى في العام التالي لمزيد من استكشاف عالم الأطفال الصم من خلال جمعية "أطفالنا" الفلسطينية، حيث التقت بأبطال فيلمها الوثائقي.
"المشي تحت الاحتلال" و"القيادة في فلسطين" و"التعذيب الصوتي" والفيلم الفائز بجائزة المهرجان الإيراني "ذبذبات من غزة"، جميعها كان لها موضوع وحيد؛ فلسطين. في رأي نزال، ينبغي على الفن أن يخدم قضية، فهو ينبع من التجربة، و"الشعب الفلسطيني يملك تجربة حقيقية".
مشروعها الوثائقي الأول "المشي تحت الاحتلال" (2007) جاء بعد زيارتها فلسطين إثر منع الإسرائيليين دخولها أكثر من عقدين. ما شهدته رحاب في هذه الزيارة من تدمير للأرض ومعاناة شعبها أثار غضبها وحرضها هذا على الاتجاه إلى الكاميرا لتصوير ما رأته.
تحكي نزال عن عمل مهم آخر موضوعه فلسطين، هو Sonic Torture، مُشيرة إلى أنه كان تجربة مؤلمة بشكل خاص بالنسبة للأسرى السياسيين السابقين، حيث استذكروا، من خلال الوثائقي، تجاربهم المريرة في سجون ومعتقلات الاحتلال، وما تعرضوا له من تعذيب جسدي ونفسي وحشي، وكان من بين وسائل التعذيب تعريضهم لموسيقى صاخبة وضوضاء عدة أيام متواصلة.
في المنفى
منذ مطلع التسعينيات، تعيش رحاب نزال في المنفى. فبعد أن غادرت مسقط رأسها، مدينة جنين في الضفة الغربية، إلى سورية، بعدما حصلت على منحة من جامعة دمشق لتستكمل دراستها الجامعية، ومنها إلى بلغاريا للحصول على الماجستير، لم تستطع العودة إلى بلدها إثر رفض الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد غياب طال عقدين، عادت الفنانة الفلسطينية في زيارة سريعة إلى فلسطين (2006)، وكان لهذه الزيارة أثر كبير في أن تتحول نزال بفنها إلى وجهة مختلفة، إذ تركت ريشتها وألوانها وأمسكت بكاميرا حديثة. بدا لها أن الفن التشكيلي إلى حد كبير ذاتي وخيالي، أما التصوير فلا أحد يستطيع أن يجادل في واقعيته.
ترى رحاب أن البصريّات بصفة عامة "قادرة على إيصال ما لا يستطيعه النصّ المكتوب، فهي تحوّل المعرفة المجرّدة إلى معرفة ملموسة، ولها قوة الاختراق. وللتوثيق وللتعبير البصري في الحالة الفلسطينيّة أهمية بالغة في حماية الهويّة والذاكرة".
لعب الفن البصري أيضاً، حسب ما تعتقد نزال، دوراً مهماً في الحفاظ على الرواية الفلسطينية، و"استخدمت الصور الثابتة والمتحرّكة للتعبير عن الرابط بين المكان والذاكرة، وفي حماية الثقافة من السرقة، وأيضاً للتحقيق في الأرشيفات الفرديّة والجمعيّة، بما فيها تلك الّتي استحوذت عليها السلطات الاستعماريّة".
ترى نزال أيضاً أن مجالها الإبداعي الجديد يتيح لها فحص جذور وسياقات القضايا التي تهمها، "من خلال إشراك الجسد والحواس: الملاحظة، والاستماع، والمشاهدة، والحركة، والتوثيق، فعبر عملها القائم على البحث، يمكنها الانغماس في المجتمعات التي تمثلها لتصبح مشاركة ولا تقف عند عتبة المراقبة السلبية".
تحت مظلة هذا الطموح، أقامت الفنانة الفلسطينية معرضا فريدا في مدينة مونتريال حيث تقيم، تزامن موعده مع العدوان على قطاع غزة، إذ امتد المعرض على مدار شهر أكتوبر/تشرين الأول، وحمل عنوان "التحرك في فلسطين". أبرزت نزال من خلاله المعاناة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال.
تقول نزال إن "التحرك في فلسطين" هو تصوير لـ"نقمة مستمرة كما يريدها المحتل الإسرائيلي، الذي ينغصّ حياة كلّ فلسطيني ويجعلها عذاباً يومياً، فكل فلسطينيي الضفة الغربية ممنوعون من دخول القدس وكل المناطق الأخرى التي احتلت في عام 1948... والهدف هو تقطيع أوصال الفلسطينيين وتقطيع الأرض".
جمعت رحاب في معرضها عدداً من الوسائط، إذ استخدمت المؤثرات الصوتية والتصوير الفوتوغرافي والفيديو والصور المطبوعة. منذ اللحظة الأولى لدخول المعرض، يُحاصر الزائر بصوت بالغ الإزعاج يصاحبه أثناء تجواله في المكان، في تجسيد لما يصدر عن الطائرات من دون طيار الإسرائيلية، التي تمثل وسيلة من وسائل عدة تستعملها دولة الاحتلال لتعذيب أهالي غزة وإزعاجهم بصورة دائمة.
ضم المعرض أيضا ما يقرب من ستين صورة فوتوغرافية لأبراج مراقبة إسرائيلية في الضفة الغربية، وهي لقطات صورتها نزال خلسة أثناء مرورها من نقاط التفتيش على مداخل مدن وقرى الضفة الغربية.
بصفة عامة، خص المعرض زواره بأعمال هي خلاصة عشر سنوات من التردد على فلسطين عبر زيارات متقطعة، لتحصل نزال على العشرات من الصور التي تجسد قسوة الاحتلال. كما ترصد ألوانا من معاناة الفلسطينيين، وكشفت نزال أنها أصيبت أثناء تصويرها في إحدى المرات برصاصة في قدمها، أطلقها قناص إسرائيلي من باب التحذير.
وعن غرضها من وراء مخاطر تكبدتها، قالت: "إنني أجلب المعرفة والوعي وأفضح الصمت والتزوير والتشويه عندما أقدم الحقائق، وأطلب من خلال ذلك ليس التفاعل، وإنما الفعل من كافة المتلقين وعلى كافة المستويات".