"رجل من الداخل"... كلّ منا قاتلٌ مُحتمل

09 نوفمبر 2022
يلعب ستانلي توشي دور جيفرسون غريف (نتفليكس)
+ الخط -

طرحت شبكة نتفليكس الأميركية، أخيراً، المسلسل البريطاني "رجل من الداخل" (Inside Man)، من تأليف ستيفين موفات وإخراج بول مكغويغان.
يناقش العمل أخلاقيات الجريمة والعقاب، وفق تصورات وتطلعات إنسانية معاصرة. الحكاية في تسلسلها التصاعدي، ستتبع آثاراً نفسية وفكرية في علاقة الإنسان "الطبيعي" مع الآخر وفق ظروف غير طبيعية، وتختبر آليات سلوكية لتقديم التوعية أمام تلك الظروف غير الطبيعية.
في المشهد الأول، نتعرف إلى الصحافية بيث دافنبورت (ليديا ويست) وهي تتعرض للتحرش من قبل أحد الركاب في القطار السريع. ستظهر جانيس فايف (دولي ويلس) لتدافع عن بيث من خلال تصوير الحدث ونقله مباشرةً عبر فيسبوك، لنهي الفتى المتحرش عن سلوكه وإجباره على التراجع. ينتهي المشهد بسلسلة هواتف محمولة تصوّر النسوةُ فيها المتحرش، ضمن مشهد جماعي بينهن يؤكد تضامنهن أمام هذا المتحرش مع تكرارهن الدرامي لجملة "مي تو".
من هنا سنتكيف مع رسالة العمل الافتتاحية الموجهة للنساء، ودعوته للتشديد على أهمية حملة Me too العالمية التي تناهض كل أشكال العنف والابتزاز والتحرش الجنسي الذي تتعرض له النساء. بعد هذه الافتتاحية، تنقسم الحكاية إلى محورين. الأول، يمهد لأزمة متصاعدة بين جانيس وعلاقتها مع عائلة القس هاري واتلينغ (ديفيد تينانت). تعمل جانيس كمدرسة خصوصية لابنه، بِن. والثاني، يقوده جيفرسون غريف (ستانلي توشي)، السجين المحكوم بالإعدام بسبب قتله لزوجته قبل عشر سنوات.
رغم أن المسلسل مكون من أربع حلقات فقط، إلا أن هذين المحورين سيختزلان سيناريو معدّاً بشكل مكثف ومبسط، مع رعاية خاصة بالحوارات والأحداث والشخصيات الرئيسية فيه. تكشف الأحداث الناشئة بين جانيس وعائلة القس هاري عن سلوكيات جرى تحفيزها دراميًا لخلق نوع من التواصل السلبي. وهو تواصل يبني لعقدة درامية تُختبر فيها أخلاقيات الإنسان وفطرته الدفاعية. فمبررات الحدث وحدة تخزين، يخبئها شماس (إدغار) مع القس خوفًا من عقاب والدته. تحوي وحدة التخزين مقاطع إباحية للأطفال. تكشفها جانيس عن طريق الخطأ. يبدأ الصراع بين جانيس، التي تعتقد بأن تلميذها بِن لديه ميول منحرفة ويجب إخطار الشرطة عنها، والقس الذي يحمي سمعة الشماس من جهة، واللغط الذي أوقع فيه ابنه بِن من جهة ثانية. يحاول القس التوصل لحل مع جانيس وإقناعها بالعدول عن قرارها، إلا أن المحادثة تتحول إلى عنف غير مقصود يؤدي إلى وقوع جانيس رهينة في قبو المنزل.


ينال هذا الصراع القسم الأكبر من السيناريو. يتم التركيز فيه على البنية النفسية للشخصيات والتصاعد الدرامي للحدث. ولعل اختيار صناع العمل لشخصية قسيس يتصف بالورع والإيمان والأخلاق العالية، لهو فرضية ضرورية لتفسير السلوك البشري حين يرزح تحت وطأة ظروف غير طبيعية، ينتج عنها عواقب صادمة، تؤكد على نزعة الإنسان الفطرية للعنف. ولما يكون فقدان التوازن الأخلاقي والإنساني، الذي لا يفتقر له الإنسان الطبيعي عادة، عاملًا حاسمًا في تقرير تلك السلوكيات، فإننا -بديهيًا- لن نكون أمام صدمة أخلاقية عابرة. وبالتالي، فإن أي مؤشر يوحي بثبات الفضيلة والأخلاق، إنما هو مؤشر واه، لن يكون في وسعنا الحفاظ عليه مستقرًا حين تصل رغبة الإنسان في الدفاع عن نفسه وعائلته إلى القتل. لذا، فإن أي شخص طبيعي مهما كان موقعه وشخصيته وحجم إنسانيته، سيخبئ في داخله قاتلًا، لا بد وأن يظهر إذا ما توافرت الظروف المناسبة والشخص المناسب، بحسب رؤية العمل.

ومع ذلك، فإن قرارًا كهذا ليس بالأمر السهل. أن تزهق روحاً هو أمر له تداعيات وآثار لا يعرف الإنسان الطبيعي كيف يتعامل معها أو حتى يتحايل عليها. والقصد في القتل هنا، إنما هو من جهة، معالجة من أجل استبيان السبب والنتيجة، وليس تشجيعًا له على الإطلاق. وتوعية وتصرف من جهة أخرى؛ إذ تمثل شخصية جانيس حاجة ضرورية وثابتة لحسن التصرف. فالمرأة برأي صناع العمل، مطالبة بالذكاء والرزانة وحسن التدبر حين تتعرض لمثل هذا الموقف.
في المقلب الآخر، تلجأ بيث إلى السجين غريف لكشف ملابسات اختفاء جانيس. لماذا تلجأ إليه؟ لأن غريف يملك عقلًا واسع الحيلة وذكاء كبيرًا في حل ومعالجة أصعب القضايا التي يمررها له رئيس السجن.
يقدم غريف شخصية خاصة تجمع بين اثنتين من أشهر الشخصيات في السينما والتلفاز. شارلوك هولمز المحقق البارع، وهانيبال ليكتر السفاح الشهير؛ إذ يتمتع غريف بخصوصيات كل شخصية من تلك الشخصيات. دهاء وسرعة بديهة وسلوكيات إجرامية منحرفة. وبالرغم من بداهة هذه السمات الظاهرة، إلا أن غموضًا كافيًا يستولي على حياة هذه الشخصية وماضيها التي لا نعلم عنها سوى أنه حائز شهادة الدكتوراه في علم الجريمة. وبأنه خنق زوجته وقطع رأسها وأخفاه في مكان مجهول. وما تزال الشرطة تسعى جاهدة منذ سنوات طويلة لمعرفة مكان الرأس.

تحافظ شخصية غريف على إيقاع العمل. تقدم الدلائل والمحاورات الذكية. وتسمح، ضمن مساحة ضيقة يتجاوز فيها غريف الفخاخ التلقائية التي كان من الممكن الوقوع فيها، نظرًا لحساسية الشخصية، بحل العقد الدرامية وتوسيع الخيوط الجانبية لبعض القصص الرديفة في عالم الجريمة التي اعتدناها مع شخصيات هولمز وليكتر. مع الحفاظ على عامل التشويق والإثارة اللذين يمهدان لفصل جديد من الحكاية. حكاية واعدة نتوقع من خلالها فتح مساحات أوسع لشخصية غريف وماضيه وقضاياه.

المساهمون