رامي صبري وعمرو الخضري... بين الحيطان

14 يناير 2024
ينتمي رامي صبري إلى التقليد الديابي (فيسبوك)
+ الخط -

مضى عقدان على الحقبة الديابيّة المتأخرّة، نسبة إلى المغني المصري عمرو دياب. منذ ذلك الوقت، وأغنية البوب الشاعرية المصرية، يمكن تسميتها "البالاد المصري"، تُسمع ضمن نمط عام يجعلها تتشابه إلا في ما ندر، فتقترب من أن تصبح تقليداً سمعياً، تعاقبت عليه الأجيال من مُنتجين ومستهلكين.

كما لو أن صاحب أغانٍ سبق لها أن عُمّرت طويلاً، مثل "تملّي معالك" و"قُصاد عيني"، قد أنتج سلالة من المغنين، مثل تامر حسني ومحمد حماقي. فضلاً عن كونهم ذكوراً، يشترك هؤلاء في صفات وخصائص ليس على صعيد الطلّة، ولون الحنجرة، وطريقة الغناء فقط، بل أيضاً نسق الأغنية التي قدموها، سواء لجهة الكلمات، أو الألحان والتوزيع، علاوة على طبيعة السوق والفئة الإجتماعية التي يتوجهون إليها بمنتوجاتهم الغنائية.

يُمكن تحديد "البالاد المصري" من ملامح  سمعية عامة، تشمل الإيقاعات الوادعة غربية الهوى، التي قد تقترب من الموسيقى الراقصة اللاتينية، دور آلة الغيتار بنوعيه الأكوستي الطبيعي والكهربائي في حشو الفراغات الغنائية وتقديم وصلات منفردة خاطفة. كلمات غزلية خفيفة تتمحور حول الحب، وإن بنبرة لطيفة ومزاج هادئ، وأخيراً النأي عن الهوية المحلية من إيقاعات ومقامات مصرية أو شرقية، كما لو أنها تُطرح بديلاً ثقافياً عن "الشعبي المصري" أو ما يُعرف في مصر بأغاني المهرجانات، وبالتالي يستهدف شريحة شبابية من طبقة وسطى أو قريبة من الوسطى.

ينتمي المغنّي والممثل المصري رامي صبري (1978) إلى التقليد الديابي، حتى إنه يشترك مع عمرو دياب في الملامح والسمات، ويعتبر من بين الأكثر رواجاً على الساحة الغنائية المصرية والناطقة بالعربية. في أول الشهر الحالي، أخذ يطرح ألبوماً جديداً بعنوان "النهايات أخلاق" برفع التراكات تباعاً على "يوتيوب"، ليصل عددها، إلى الآن، 12 أغنية، ولئن ظلّت الأغاني في نطاق "البالاد المصري" إلا أن واحدة تميّزت عن البقية بحساسية خاصة، لن تجعلها تغريداً خارج السرب، بل تفرّداً من داخله، ألا وهي "بين الحيطان".

اللافت أن الجمهور تلقّف الفرادة وحسن الصياغة التي عكستهما الأغنية بطولها الذي لا يتجاوز ثلاث دقائق، لتُصبح الأكثر استماعاً من بين تراكات الألبوم، وليُحقق الفيديو المرفوع غير المصوّر والخاص بها عدد نصف مليون مشاهدة خلال 48 ساعة. بأخذ الجودة الإنتاجية العامة بالاعتبار، بما فيها أداء صبري وطاقم العازفين داخل استوديو التسجيل، فإن كلّاً من التلحين والتوزيع الموسيقيين، والأهم الرؤية التصميمية أو المفاهيمية المُتبعة في كتابة الأغنية، يُعَدّ بمثابة عوامل حاسمة للنجاح والتأثير، لجهة كلّ من الابتكار والتنفيذ.

يبرز هنا دور كاتب الألحان والموزّع عمرو الخضري، الذي قُدّم خلال الفيديو كمؤلف الأغنية. مع أن العرف في دنيا البوب لا يقتضي بالضرورة تقديم المُلحّن والموزع بصفته مؤلّفاً موسيقياً، إلا أن الخضري ترك، من دون شك، بصمات تأليفية على "بين الحيطان"، ولا سيما أن البوب الناطق بالعربية يختلف عن البوب في الغرب، فعادة ما يقوم المغني بكتابة الألحان علاوة على الكلمات، وعليه يُسمى كاتباً للأغنية، بينما تتوزع الأدوار في الأغنية العربية على طول خط الإنتاج، من شاعر ينظم كلماتها، ومُلحّن يضع ألحانها، وقد يوزّعها، ومغنٍّ يؤديها.

لدى الاستماع إلى أغنية صبري، تتجلّى العلامات التأليفية للخضري من خلال ثلاثة مظاهر أساسية، أولها الاقتصاد في الموارد الموسيقية وتجنّب التخمة في التوزيع، ما يُضفي على الأغنية سمة مينيمالية قلّما تُتّبع في مجال الغناء العربي. الميزانيّات المُريحة التي تتمتع بها الإنتاجات الموسيقية الهادفة أساساً إلى تحقيق العوائد، غالباً ما تغري القائمين على الإنتاج بإشباع منتجاتهم بالعناصر اللحنية والمؤثرات الصوتية، مدفوعين بجوّ من التنافس بين المغنين ومن خلفهم الملحّنون والموزّعون، وبسعي في سبيل استمالة الذائقة العامة، سالكين طريق الوفرة والبذخ عوضاً عن النُّدرة والزهد.

قد لا تغيب العناصر من حيث كثرتها وتنوعها، وإنما توظّف بأسلوب يصهرها معاً، فلا يتراكم بعضها فوق بعض لتُسمع فاقعة نافرة؛ إذ ثمة بيانو وغيتار وخطوط آلات وتريّة سُجّلت حية أو صُنعت من مؤثرات إلكترونية، فضلاً عن جوقة مصاحبة تألفت من صوت صبري، إما جرت إعادة تسجيله على مستويات عدة وإما أنه قد وُلّد الوسائل الحاسوبية. ومع ذلك، تبقى وفرة العناصر غائرة في ثنايا نسيجٍ مُخمليٍّ داكن أُحسِن مزجه والموازنة بين مستويات الصوت الداخلة في تركيبه، ما يُدعى Mixing والذي قام به الخضري بنفسه، ما أكسب المادة الموسيقية تجانساً وأناقة في المظهر وعمقاً في التأثير.

ثاني العلامات على الحسّ التأليفي لدى الخُضري، إيكاله الموسيقى بمهمة السرد عوضاً عن الاتكال كُليّاً على الغناء. لأجل ذلك، تُخصّص مساحات واسعة لموسيقى خالصة من طريق مدّ جسورٍ آلية طويلة الأمد، تصل بين المقاطع الغنائية، وفي ذات الوقت تخلق مديات تقترب في رحابتها ومينيماليّتها من حدود الصمت. بهذا، يخدم التصميم السكوني المزاج الميلانكولي للأغنية من خلال خلق دراما موسيقية رافدة للغناء. 

وهنا تكمن العلامة الثالثة عبر وضع اللحن والمغنى في اتّساق مع معنى الكلام. لطالما تمتع مُلحّنو الشرق بحسّ لغوي مُرهف، نظراً لعلو درجة الشعر على الموسيقى في الثقافة العربية، علاوة على الاعتماد بدرجة أولى على الكتابة الموسيقية الأفقية ذات الصوت الواحد، بحيث يُصبح توصيف معاني القصيدة من خلال صياغة الخط اللحني المهمة الأسمى التي توكل إلى الملحّن.

وبحكم أن الخضري ينتمي إلى جيل يستخدم تعدد الأصوات والكتابة العمودية، أي اللحن المصحوب بسلاسل هارمونية، فقد وظف الأنماط الغربية لأجل التعبير عن مضمون النص. تسمعه يصمّم نهاية جُمل الكوبليه الموسيقية في اتساق مع معنى "ما بتنتسيش" و"ما رجعليش"، بحيث لا تحلّ في نغمة القرار، فالاستقرار، بل تبقى معلقة في إشارة إلى حال النفي الناتجة من عدم النسيان وعدم الرجوع.

لا تعني العلامات الدالة على الحسّ التأليفي لدى عمرو الخضري، أن "بين الحيطان" مؤلّف موسيقي مُعقّد مُحكم له بنية سردية وشحنة عاطفية قادرة على الصدم الشعوري بقدر ما يحتويه من كمون فكري، ولا ينبغي أن تكون كذلك. الأغنية في نهاية المطاف إنما هي "بالاد مصري" خفيف، أُنتجت في إطار التقليد "الديابي"، بهدف الاستهلاك اليومي خلال السهرات وفي أثناء قيادة السيارة. مع ذلك، إن سُمعت بأذن نقدية، يرشح عنها تصميم جذّاب ورؤية مفاهيمية وذوق عالٍ، يستحق الوقوف عليه. لئن لن ينتبه المستمع إليه، فسيجد نفسه ومن دون أن يشعر أو يدري، يحرّك شفاهه مُردداً غناء رامي صبري.

المساهمون