راب لفلسطين... طوفان غنائي موازٍ

04 ديسمبر 2023
في إحدى مدارس "أونروا" في رفح (عبد الرحيم الخطيب / الأناضول)
+ الخط -

مع انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انفجر طوفان فني من الأغنيات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني عموماً، وقطاع غزة على وجه الخصوص. لكن، من يستعرض تلك الأعمال التضامنية سيكتشف أن مغني الراب شغلوا المساحة الأكبر في ميدان المقاومة الفنية، وأنهم أصبحوا في صدارة المشهد الغنائي المناصر لغزة وأهلها في وجه العدوان، سواء جاء تضامنهم بإنتاج أعمال جديدة تواكب الأحداث الحالية، أو بإعادة نشر أغنيات قدموها خلال أحداث سابقة، أو بالتضامن الرمزي من خلال رفع العلم الفلسطيني في حفلاتهم، أو ارتداء الكوفية الفلسطينية أمام الجماهير ووسائل الإعلام.

شرائح واسعة من مجتمعاتنا العربية ذات التوجه المحافظ لم تكن حفية بالراب ومغنيه. في مصر مثلاً، وحتى شهرين فقط، كانت قطاعات كبيرة من المجتمع، ولا سيما من كبار السن، وذوي الميول التقليدية، تنظر إلى المغني أحمد علي، الشهير بـ"ويجز"، باعتباره مظهراً من مظاهر انحلال المجتمع وتفسخه، وتنظر إلى الحشود الضخمة في حفلاته باعتبارها تجلياً من تجليات الابتعاد عن الدين والقيم، ودليلاً دامغاً على أن الشباب المصري لا يمكن أن ينشغل بقضايا كبيرة أو مهمة. لكن هذه النظرة أخذت طريقها إلى التغير، مع مواقف ويجز الداعمة للفلسطينيين، ليكتشف كثيرون أن عالم الراب هو أكبر العوالم الغنائية المعاصرة تضامنا مع القضية الفلسطينية.

"طوفان.. عدونا حيران.. حاربنا لأجل دين وقرآن.. وما في استسلام.. والآن بنرد الصاع.. بألف بركان.. عدونا ينهان". بهذه الكلمات، أطلق مغني الراب الأردني علاء حمدان أغنيته التضامنية "نيران طوفان الأقصى"، بعد أيام قليلة من تصاعد عدوان قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة. يؤلف حمدان كلمات أغنياته بنفسه أو بالاشتراك مع آخرين.

ويمكن لمن يطالع محتوى قناته على "يوتيوب"، أن يتبين مدى اهتمامه بالقضية الفلسطينية، من خلال عدة أعمال، منها: "دمي فلسطيني" التي أطلقها مع أحداث حي الشيخ جراح، أو "صوت الأقصى" التي تضمنت كلمات حادة ضد التطبيع و"صفقة القرن" و"التخاذل العربي" تجاه القضية الفلسطينية، وفيها يقول: "عمرك سمعت بيوم أخ ممكن إنه يبيع أخته.. هاي هي الأمة العربية بموقف فلسطين.. أي بلاد بتحكي عنها والأيادي سلمتله.. للعدو عملوا السلام وباعوا الأصل والشرف والدين".

وقبل أربع سنوات، أطلق حمدان أغنية بعنوان "وقت الحرب"، تتحدث كلماتها عن ويلات الحروب والقصف والدمار، مع إصرار على تحرير فلسطين: "كملت حياتي بدون أي سند.. أعطيت أبوي وأمي وأخوي وعد.. يا بحرر هاي الأرض.. يا بموت شهيد.. سلاحي إيماني والنصر قريب".. اتسمت كلمات حمدان دائما بعبارات قصيرة وحادة، وظهرت تلك المعالم بوضوح في عمله الأخير المتفاعل مع الحرب الحالية: "طوفان يمد.. وما في حد يسد.. وكفينا شد.. وقتلى عد وعد.. احنا بنهد.. عدونا كالرعد.. صواريخ تمد.. وترعب أي ند".

"أخويا فلسطيني" من أغنيات الراب التي صدرت في مصر بعد نحو أسبوعين من عملية طوفان الأقصى، من كلمات وموسيقى وغناء الشاب مصطفى النسر، ابن منطقة المقطم في القاهرة. كتب وغنى قائلاً: "إنتوا استهونتوا بالدم.. أنا أخويا فلسطيني بس ماليش أي ولاد عم.. فينا رجالة ما تخافش الموت هنا ما بنندمش.. يوم 7 في تل كان نبذة بسيطة بس ما تحلمش.. إن القضية تتلم".

حققت الأغنية مئات آلاف المشاهدات، وحظيت بكثير من التعليقات المرحبة، فكلماتها تمثل الصورة النموذجية التي يميل إليها جمهور الراب الشعبي، من كلمات الجرأة والقوة والرجولة والانتقام. أي تسقط صورة "البطل" في المخيلة الشعبية العربية على الشعب الفلسطيني كله، مع التأكيد على الرغبة في الانتقام من المحتل الذي يقتل النساء والأطفال.

لكن أكبر عمل لمغنّي الراب المصريين، جاء من فرقة "راب شارع"، التي أنتجت فيديو يتضمن 11 أغنية تضامنية مع الشعب الفلسطيني، قدمها 11 مغنياً مع مجموعة كبيرة من المرددين، أكثرهم من الشباب والمراهقين، بل من الأطفال. بدأ الفيديو بهتاف شعبي انتشر في مصر مع بدء الحرب على غزة، ويحمل كلمات ضد إسرائيل بعضها لا يصلح للنشر العام.

ومع الإقرار بأن الألفاظ "النابية" قد تكون مانعاً من قبول قطاعات جماهيرية لهذا النمط الغنائي، إلا أنها أيضاً تكون في كثير من الأحيان سبباً للانتشار بين الشباب، ولا سيما من أصحاب النزوع نحو الثورة والتمرد، ما يفسر اضطراد تلك الألفاظ في معظم أغنيات الراب المتضامنة مع فلسطين. فمشاهد الدمار واستخراج جثث الأطفال من تحت الركام تمثل مبرّراً كافياً عند جماهير الراب لسبّ القتلة، وتحميل الكلمات بالحمولة القصوى للغضب والتوعد بالثأر.

بالطبع، اختلفت الأغنيات التي قدمتها "راب شارع" في إيقاعاتها وطريقة أدائها، كما تعددت رسائلها ومضامينها، لكنها في مجموعها تقدم خلطة عجيبة، من الوطنية، والقومية، والتذكير بوحدة العرق والدين، واستدعاء بعض وقائع التاريخ، بل واستدعاء النبوءات الدينية ذات الصلة، وتمجيد البطولة والاستشهاد، والتذكير بأهمية التمسك بالأرض، والتأكيد على الجرأة الشديدة وانعدام أي شكل من أشكال الخوف من الاحتلال وأسلحته الفتاكة، والإشارة إلى المواقف المتخاذلة للمجتمع الدولي والقوى العظمى. وفي أغنية "أرض كنعان" مثلاً، يشير المغني إلى تميم البرغوثي وعبد الوهاب المسيري وإدوارد سعيد.

وإذن، فالراب العربي يتناول قضية فلسطين في كل أبعادها، بما في ذلك البعد التاريخي أو العقائدي، وإن كان يقدم كل هذا في صورة عبارات قصيرة وحادة، لا تهتم كثيراً بالوزن ولا بالقافية، وبالطبع لا تكترث بأي سلطة أخلاقية على صياغة الكلمة. أهدت الفرقة كل أرباح الفيديو للشعب الفلسطيني.

استعانت أغنيات الراب المتفاعلة مع الأحداث الأخيرة، بصور ومقاطع فيديو للقصف والدمار في قطاع غزة، كما استعانت بجمل قصيرة من نشرات الأخبار، وبيانات المتحدث باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، وتكرر فيها تصوير المشاهد في بنايات مهدمة، وخلفيات عشوائية، كي تشبه مباني غزة التي دمرها القصف.

ومن الملاحظ أن مناصرة فلسطين بأغنيات الراب تنتشر عبر معظم البلدان العربية، ويمكن لمن يطالع مواقع التواصل أن يجد أغنيات راب حديثة، لمغنين من مصر وتونس والجزائر والمغرب، كما يجد أعمالاً مناظرة لمغنين من سورية والأردن ولبنان واليمن، بل ودول الخليج العربي.

بالرغم من أن الرابر المصري ويجز لم يقدم عملاً غنائياً واضحاً للقضية الفلسطينية أو قطاع غزة في محنته الحالية، إلا أن تضامنه العلني مع الشعب الفلسطيني غيّر نظرة كثير من أصحاب الأحكام التعميمية الذين نظروا دوما باستنكار إلى مغني هذا اللون وكذلك إلى الجماهير التي تحتشد للاستماع إليهم.

في كل حفل من حفلاته الأخيرة، ظهر ويجز بمظهر تضامني واحد أو أكثر مع الفلسطينيين، إما بارتداء الكوفية الفلسطينية، أو بالاتشاح بالعلم الفلسطيني، أو بالهتاف لحرية فلسطين. فعل هذا في الولايات المتحدة الأميركية وكندا، ومعظم العواصم الأوروبية، وسط حشود هائلة، وفي محافل نفدت تذاكر دخولها قبل أسبوعين من موعدها، فأدرك كثير من المتحفظين أن للراب موقع أمامي على خط التضامن الغنائي مع فلسطين.

المساهمون