استمع إلى الملخص
- تعاونت مع كبار الملحنين مثل محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي، وحققت نجاحًا بأغانيها الدينية والوطنية، خاصة "فاكراك ومش هنساك".
- اختارت التواري عن الأنظار في سنواتها الأخيرة، واستقرت في الإسكندرية، وتوفيت عام 1993، تاركة إرثًا فنيًا غنيًا.
امتلكت المطربة المصرية نجاة علي صوتاً قديراً، مكّنها من الغناء في عصر ما قبل الميكروفون، واستطاعت بغنائها أن تتنافس مع مطربتين أو ثلاث على المكانة التالية لأصوات أم كلثوم وفتحية أحمد وأسمهان. كان صوتها السبب الأول لدخولها المبكر إلى عالم السينما، ومشاركة محمد عبد الوهاب بطولة فيلمه الأول.
بدأت مسيرتها الغنائية منذ أواخر العشرينيات، وعرفتها شركات الأسطوانات والإذاعات الأهلية. وبين عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، حققت شهرة من خلال غنائها للإذاعة الحكومية المصرية منذ انطلاقها، بعد أن تعاقد معها مدحت عاصم، المدير الفني للإذاعة.
خلال رحلتها الفنية، شدت بعدد كبير من الأغاني التي صاغ أنغامها كبار الملحنين في مصر: داود حسني، ومحمد القصبجي، وفريد غصن ومحمد عبد الوهاب، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي الذي عمل لفترة عوّاداً في فرقتها، فكانت من أوائل من اكتشف قدراته التلحينية. ثم تعاملت مع من تصفهم هي بـ"الجيل الجديد": أحمد صدقي، ومحمود الشريف، وعبد العظيم عبد الحق، ومحمد فوزي، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي.
قرّر المشرفون على إطلاق الإذاعة الحكومية المصرية عام 1934 أن تأخذ الأيام الثلاثة الأولى طابعاً احتفالياً. حمل اليوم الأول أصوات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وصالح عبد الحي، وفي اليوم التالي مباشرة، حمل الأثير صوت نجاة علي التي قدمت أغنيتين، أولاهما "مين اللي قالك تهواني" من ألحان محمد القصبجي، والأخرى "لما التقينا بعد الغياب" من ألحان رياض السنباطي.
كان هذا العام كافياً لتعريف الجماهير بصوت نجاة، وكان كافياً للفت انتباه محمد عبد الوهاب إليها، واختيارها لمشاركته بطولة فيلمه السينمائي الأول "دموع الحب". كان نصيب نجاة علي الغنائي في الفيلم محاورتين مع عبد الوهاب هما "صعبت عليك" و"محلا الحبيب"، وكلتاهما من كلمات أحمد رامي.
الغناء في الأيام الافتتاحية للإذاعة، وبألحان القصبجي والسنباطي، ثم مشاركة عبد الوهاب بطولة فيلمه الأول، وأداء محاورتين غنائيتين معه، كانت الحيثيات المنطقية التي وضعت نجاة علي في مكانة فنية تاريخية. لكن رغم أهمية هذا التعاون الفني المبكر مع عبد الوهاب، إلا أن نجاة علي كانت قد خاضت تجربة سينمائية ريادية عام 1930، حين شاركت غنائياً في فيلم "معجزة الحب" الذي أنتجته شركة الأخوين إبراهيم وبدر لاما، ولعب الأخير فيه دور البطولة.
كان عمر نجاة وقتها 17 عاماً فقط، وكان الفيلم صامتاً، لكن دور العرض واكبت مشاهد الأغاني بصوت نجاة من خلال تشغيل الأسطوانات. فشلت التجربة فشلاً ذريعاً، لكنها تبقى مهمة في التأريخ للأغنية السينمائية المبكرة.
بعد ثلاث سنوات من فيلم "دموع الحب"، خاضت نجاة علي تجربتها السينمائية الثانية، بتقاسمها بطولة فيلم "شيء من لا شيء" مع عبد الغني السيد، فعززت رصيدها من ألحان الشيخ زكريا أحمد. ثم توالت مشاركات نجاة السينمائية: "حب من السماء" (1943)، وفيه غنّت من ألحان محمد أمين الذي شاركها البطولة، ثم "الحظ السعيد" (1945)، وفيه غنّت من ألحان القصبجي والسنباطي ومحمود الشريف وفريد الأطرش وفريد غصن، ثم فيلم "الكل يغني" (1947)، وهو من بواكير أفلام المطربة نجاة حسني، التي لقبت من حينها بنجاة الصغيرة تمييزاً لها عن نجاة علي، وكان آخر أفلامها "الشاطر حسن" (1948).
في لقاء مع مجلة الكواكب عام 1980، قالت نجاة علي: "بدأت عملي بالفن عام 1930، وذلك قبل أن أؤدي البطولة الغنائية لفيلم "دموع الحب" عام 1936، وهو أول فيلم غنائي بطريقة الديالوغ بيني وبين محمد عبد الوهاب، وعهدي بدأ بعد منيرة المهدية وفتحية أحمد وأم كلثوم ونادرة وملك، لأنني ظهرت في الثلاثينيات، في الفترة التي ظهرت فيها ليلى مراد وأسمهان ورجاء عبده".
مع صوتها القوي اللامع، استفادت نجاة علي بالتعلم على يد أساتذة كبار، دربوها على أداء القوالب الكلاسيكية. تحكي هي قصة هذا التدريب، فتقول: "أول حفلة لي كانت في تياترو حديقة الأزبكية، وقبل ذلك كان هناك إعداد لي، مكثت عامين أو ثلاثة أحفظ موشحات وأدواراً على يد داود حسني، والقصبجي، وصفر علي، والطبيب أحمد صبري النجريدي، الذي لحّن لأم كلثوم "مالي فتنت" ولحن لي "ما دام في عيني الدموع". القصبجي لحّن لي "سر السعادة" وداود حسني لحّن لي "حس الجميل"، ومثلت خمسة أفلام بعد "دموع الحب"، وكانت جميعها بطولات غنائية".
ظلّت نجاة علي تعتز بأنها شاركت رياض السنباطي في محاورة غنائية، بعنوان "يا حياتي هجرت حبي". وكان السنباطي مقلاً جداً في غناء الديالوغ، ولم يترك منه إلا صيغتين بالاشتراك مع هدى سلطان، ضمن فيلم "حبيب قلبي" عام 1952. والغالب أن محاورته مع نجاة علي كانت أسبق من هذا التاريخ. أمست نجاة علي المطربة الوحيدة التي شاركت كلّاً من عبد الوهاب والسنباطي في ديالوغ غنائي، كما تضمن رصيدها أكثر من محاورة مع عبد الغني السيد.
اهتمت نجاة علي بالغناء الديني، وذكرت في لقاء إذاعي أنها أكثرت من هذا اللون، لكن يبدو أن كثيراً من هذه التسجيلات لا يزال مفقوداً. ومن أمثلة أغانيها الدينية: "يا رسول الله مدد"، بتلحين عبد العظيم عبد الحق، و"يا نديم الروح"، بتلحين أحمد عبد القادر، و"محمد سيد الأقوام"، بتلحين أحمد صدقي، و"شهر الغفران"، بتلحين سيد مكاوي.
لكنها تتذكر الأثر الكبير لأغانيها التي لحنها الشيخ زكريا أحمد عن شعائر الحج، وفي مقدمتها "صون يا نبي حجاجك"، و"يا رايح جدة على زمزم"، فقد استخدم طلعت باشا حرب مؤسس بنك مصر ورئيسه حينها هذه الأغاني في الدعاية لرحلات الحج التي ينظمها البنك، عبر سفينتيه "زمزم" و"كوثر".
كانت كلمات الأغنية تقول: "صون يا نبي حجاجك.. نالوا الشفاعة بيك.. ويا بحر هدي أمواجك.. زمزم وكوثر فيك". موّل بنك مصر الأغاني، وعمل على نشرها، وقدر طلعت باشا حرب أن الأغاني كانت سبباً في زيادة عدد الحجاج في ذلك العام، فاستدعى نجاة علي، ومنحها مكافأة مقدارها 500 جنيه مصري، وهو مبلغ هائل في ذلك التوقيت.
مرت شهرة نجاة علي بعدة مراحل، كانت أولاها مع صدور أول أسطواناتها التي حملت أغنية "سر السعادة" من ألحان محمد القصبجي، ثم اتسعت شهرتها في مرحلة تالية مع انطلاق صوتها عبر الإذاعة، ومشاركتها في عدد من الأفلام الغنائية. لكن شهرتها اتسعت كثيراً بعد النجاح المدوّي الذي حققته أغنية "فاكراك ومش هنساك" التي صدرت منتصف الأربعينيات، وتعرف أيضاً باسم "عش الهوى المهجور"، كلمات إمام الصفطاوي، وألحان أحمد صدقي: "فاكراك ومش هنساك.. مهما الزمان قساك.. ولا نسيت حبي.. وإن رحت مرة تزور.. عش الهوى المهجور.. سلم على قلبي".
أصبحت الأغنية مطلباً جماهيرياً في رسائل المستمعين للإذاعة، وفي كل حفل تظهر فيه نجاة علي، وتفاعل معها الجمهور بطريقة لم تعتدها المطربة من قبل، وفي كثير من تسجيلات الأغنية المحفلية يصفق الجمهور بمجرد البدء بعزف المقدمة الموسيقية.
بسبب تدريبها المبكر على أداء القوالب الكلاسيكية، كانت نجاة علي تحن إلى الأشكال الغنائية القديمة بالرغم من أن المساحة الإذاعية المتروكة لهذا اللون تقلصت إلى حد كبير. لكن لن يعدم متذوقو هذا الغناء بعض الأدوار والموشحات والقصائد الموقعة في التسجيلات التي خلفتها نجاة علي، ومنها موشح "يا نحيف القوام"، وقصيدة "وحقك أنت المنى والطلب"، باللحن المعروف للشيخ أبو العلا محمد.
في 26 ديسمبر/ كانون الأول عام 1993، رحلت نجاة علي عن 80 عاماً، بعد أن توارت عن الأنظار لسنوات، واختارت الإقامة الدائمة في مدينة الإسكندرية.
تختلف المصادر في تاريخ اعتزالها الغناء، وبعض الكتابات تُشير إلى اعتزال مبكر أواخر الخمسينيات، لكن تسجيلاتها في حقبة الستينيات تدحض هذا الزعم، والغالب أنها خففت من نشاطها الفني من دون قرار نهائي بالاعتزال، وقد أشارت في حوار إذاعي إلى أن الملحن محمد الموجي كان يسجل لها اللحن على شريط كاسيت، ويتركه لها في بيتها بالإسكندرية، لتحفظه، ثم تأتي إلى القاهرة لإجراء البروفات والتسجيل النهائي في يوم واحد. وبالطبع، تقلّص جهدها الفني إلى أن توقف كلياً بسبب الإجهاد والتقدم في السن. رحلت، وتركت إرثاً فنياً يشهد على رحلة غنائية بالغة الثراء.