دْيَامْس تروي سيرتها في وثائقيّ عاديّ

18 يناير 2023
دْيَامس قبل اعتزالها الـ"راب": البحث عمّا لا تعرفه (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في بداية "سلام" (2022)، الوثائقيّ (77 دقيقة) الذي تُشارك في إخراجه مع هدى بنيامينا وآن سيسّي، تُحدّد دْيَامْس (1980)، بنصّ تقرأه، المسارَ المطلوب التنبّه إليه، سلفاً، في سرد حكايتها، للمرّة الأولى منذ اعتزالها فنّ الـ"راب"، عام 2010. تقول حالةً تعيشها، تؤدّي بها لاحقاً إلى اعتزالها المشهد العام، والقول حاصلٌ بمواربةٍ أدبيّة مُبسّطة وموحية. اللاحق على اعتزالها يتمثّل بانكفائها في عزلةٍ، وارتدائها الحجاب، بعد اعتناقها الإسلام.

تحديدٌ كهذا يُعطِّل فرجةً، يُفترض بالوثائقي منحها متعة الاكتشاف والمتابعة، رغم أنّ سياق المرويّ على لسان دْيَامْس، التي تحتلّ الغالبية الساحقة من المسافة البصرية (هناك أفرادٌ قلائل يسردون أمام الكاميرا أشياء من علاقاتهم/ علاقاتهنّ بها، وانفعالاتهم/ انفعالاتهنّ إزاء عيشٍ لها يُثقل عليها كثيراً، علماً أنّ غالبيتهم/ غالبيتهنّ يظهرون في أطرٍ منغلقة على وجوههم، مع خلفية سوداء)، يُفكِّك (السياق) تلك الحالة، بسردٍ تغيب عنه المغنيّة على خشبة المسرح، مع لقطاتٍ سريعة لآلاف المهووسين/ المهووسات بها، زمن مجدها وشهرتها. كما أنّها تعود إلى قاعةٍ، لها فيها ذكرياتٍ حلوة، فدْيَامْس غير ناكرةً اشتغالاتها الفنية، وغير متخلّيةٍ عنها، وغير راغبةٍ في إخفائها.

تحديدُ الحالة يحول، ولو قليلاً، دون متعة الاكتشاف. هذا غير مُرتبطٍ بقولٍ نقدي، مفاده أنّ الوثائقي، كفيلمٍ مشغول بمهنيّةٍ عادية، غير مُثيرٍ وصادم بصُوَره (ميكائل كابْرون) وتوليفه (لِيا ماسّون) ولقطاته، مع أنّ تقنياته مشغولة بحِرفية مهنية، ومناظر الطبيعة خلّابة، خاصة في جزيرة موريس، التي تشهد، كما يبدو، أول خطوة للشابّة باتّجاه الإسلام. والوثائقيّ، إذْ يبدأ من تحديد الحالة، يكشف ذاتاً ومشاعر وتفكيراً، وبعض هذا حميمٌ وخاص جداً، كأنّ المغنية المهتدية إلى الإسلام تريد تصفية حسابٍ عسير مع الجميع، وأولاً مع ذاتها وروحها وانفعالاتها وهواجسها ورغباتها. أي بدءاً من الحالة المذكورة في بداية الفيلم.

النصّ يكاد يكون فقراتٍ من أغنيةٍ، تتفوّه بها دْيَامْس بشاعرية ملطّفة ومحبَّبة، أو بما يشي بقهرٍ وغضبٍ قديمين، وحسرةٍ تبدو كأنّها مستمرّة إلى الآن، رغم سلامٍ فيها تؤكّده في أكثر من كلمة. كل قولٍ لها عن الإسلام يترافق وابتسامة متواضعة، لن تُخفي فرحاً وسلاماً فعلياً يشعّان منها وفيها. هذه طريقها إلى خلاصٍ، تطلبه كثيراً في أغنياتها وبوحها زمن مجدٍ وشهرةٍ سابقين. فالنصّ، المرتكز على أسئلةٍ عن الوجود والحبّ والحياة والسعادة والبحث عنها، وغيرها، يعكس مرارة شابّةٍ توحي، في سياقِ الوثائقيّ، أنّها منزعجةٌ من الناس، فبعضهم غير منتبهٍ إلى ألمها، المُعلَن شيءٌ منه هنا وهناك، والبعض الآخر غير مسرور باعتناقها الإسلام، وارتدائها الحجاب.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

تقول دْيَامْس إنّها راكضةٌ في الاتجاهات كلّها، إلى حدّ أنّها تفقد الاتجاهات كلّها لكثرة الركض: "أركض من دون توقّف"، تقول، متسائلةً: "لكنْ، من أجل ماذا (أركض)، في النهاية؟"، تُجيب: "يبدو أننا نركض جميعنا وراء السعادة (للمفردة الفرنسية Bonheur ترجمة عربية أخرى: الهناء). لكنْ، حقيقةً، ما السعادة؟ من السعادة؟ كيف (تكون) السعادة؟ أين السعادة؟ متى السعادة؟". تُضيف أنّ هناك من يُخبرها بأنّها ستعثر على السعادة في الثراء المالي، الذي (الثراء) تحصل عليه، لكنّها غير شاعرةٍ بالسعادة المطلوبة؛ أو في الحبّ، فإذْ بها تبحث عنها في حبّ الناس، وهم ملايين يحبّونها، "وأنا أيضاً أحبّهم". رغم هذا، السعادة غير موجودة: "لذا، أكملتُ الركض والبحث. دائماً الأعلى، دائماً الأبعد، دائماً الأخطر". تذكر عيشها مخاطر، وتعباً يحلّ بها، إلى حدّ أنّها تكاد تقتنع بأنّ السعادة غير موجودة، وبأنّ الأفضل لها أنْ تموت: "لأنّي أحتاج إلى شيءٍ آخر"، لن تعرفه أبداً، فتُصبح، هي، لغزاً لها.

الموت، تختبره دْيَامس في سنّ المراهقة (محاولة انتحار). تعيش خوفاً من فقدان الأم (الفرنسية، المتزوّجة من يونانيّ سيكون والد دْيَامس، المولودة في نيقوسيا، والتي ستعيش مع والدتها في فرنسا، بعد انفصال الأم عن زوجها، منذ بلوغها 3 أعوام). ثم مرحلة الشهرة، التي تكتسبها بفضل أغنياتها، وحفلاتها التي تجهد في تنظيم تفاصيلها كلّها، شخصياً. الارتباك النفسيّ، والعلاج غير النافع لها رغم كمٍّ هائل من الأدوية (تروي لوالدتها معنى أنْ يُغلق عليها كلّ شيءٍ، فتُعزل عن العالم، وتُعطى ما تصفه فيليت سالّ بـ"جحيم الأدوية"، في مقالةٍ لها منشورة في Voici، المجلة الأسبوعية الفرنسية، في 27 مايو/ أيار 2022). السقوط البطيء في هاوية القلق والتمزّق والألم. توقها إلى نجاةٍ غير مكتملة في حياتها اليومية. الثقل الجماهيري كبير، بما فيه من متطلّبات وتواصل، فهي تمثّل "شيئاً ما" عظيماً عند جمهورها، كما أنّ الحجاب الذي ترتديه، والمرفوض من كثيرين/ كثيرات، يُمثّل شيئاً ما عظيماً، أيضاً، عند كثيرين/ كثيرات آخرين (كما يقال عنها في "سلام").

الوثائقيّ رحلةٌ في أعماق هاوية تسحق المرء كمن يقتله كل لحظةٍ، وفي اكتساب مجد/ شهرة تتخلّى عنهما صانعتهما. إنّه، أيضاً، رحلةُ خروج من قاعات النجومية، وبحثٍ عن سلامٍ حقيقيّ في الذات والروح، اللتين تحصلان على "السعادة" مع عثور ميلاني "دْيَامس" جيورجاديس على الإسلام. لكنّ هذه الرحلة عاديةٌ للغاية بصرياً، رغم ما فيها من تساؤلاتٍ مهمّة، تتكرّر تاريخياً على ألسنة أفراد كثيرين/ كثيرات، ومن إجاباتٍ "حاسمة" (!) بالنسبة إلى المغنية المعتزلة.

المساهمون