لم يعد مشروب الفودكا الروسي الشهير، البالغة نسبة الكحول فيه 40 في المائة، مجرد أحد أبرز رموز روسيا، وإنما جاء تاريخه بمثابة مرآة لتاريخ البلاد في مجالات أخرى من حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وبعد أن كان إنتاج الكحول حكراً على الدولة في عهد الاقتصاد المركزي في الحقبة السوفييتية، سيطرت عصابات المافيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي على هذا القطاع المربح في تسعينيات القرن الماضي، ووصل الأمر إلى إطلاق اسم "بوتينكا" على إحدى علامات الفودكا في بدايات عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
في كتاب بعنوان "التاريخ الروسي المعاصر في 14 زجاجة فودكا"، صدر حديثاً في موسكو، يتناول الكاتب الصحافي والمدون الروسي، دينيس بوزيريوف، مسيرة تطور قطاع إنتاج الفودكا كمرآة لتاريخ روسيا ما بعد السوفييتية، وكيف اختلطت فيه الصراعات من أجل المال والسلطة والنفوذ.
وفي مقابلة مع "العربي الجديد"، يستعرض بوزيريوف تاريخ صناعة الفودكا في روسيا الحديثة، قائلاً: "إذا سألت أي أجنبي عن ثلاث كلمات تتعلق في ذهنه بروسيا، فستكون إحداها الفودكا حتماً، بينما قد تتراوح الكلمتان الأخريان بين البرد وبوتين، أو والفضاء والباليه، ولكن الفودكا لا تتغير. منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، شهد قطاع إنتاج الفودكا تطوراً كبيراً، ولكن عصابات المافيا كانت تتحكم فيه في البداية، وكان مرآة لما يجري في البلاد، بدءاً من الإصلاحات والرأسمالية الوحشية وانتشار الجريمة المنظمة، وتحكم العصابات لا الشرطة في شوارع المدن الروسية، ووصولا إلى مرحلة الهدوء في القرن الـ21".
في عام 2003، بدأ مصنع "كريستال" بإنتاج فودكا حملت علامة "بوتينكا"، لتأتي مؤشراً موضوعياً لشعبية بوتين، وفق ما يوضحه بوزيريوف، مضيفاً: "في ذلك الزمن، كان هناك مخاوف لدى الروس من شراء كحول مغشوش في متاجر التجزئة، فعندما بدأ إنتاج "بوتينكا" بالتنسيق مع قمة هرم السلطة، وبإذن من بوتين شخصيا، حظيت بإقبال عال من الزبائن الذين آمنوا بأن بوتين والمحيطين به لن يسمحوا بإنتاج فودكا سيئة الجودة تحمل اسمه، حتى لا يظن الناس عنه سوءاً، ويمتنعوا عن التصويت له في ذروة شعبيته بين ولايتيه الأولى والثانية".
وحول تأثير التغييرات في نسبة تأييد بوتين على مبيعات "بوتينكا"، يتابع: "لفترة طويلة، ظلت مبيعات "بوتينكا" تعكس صعود أو هبوط شعبية بوتين بدرجة أكبر حتى من استطلاعات الرأي التقليدية، بسبب خوف العديد من المستطلعة آراؤهم من الإجابة بصراحة خشية من تسريب بياناتهم. وكانت هناك دائماً صعوبات في تحقيق مبيعات كبيرة لـ"بوتينكا" في مناطق الشرق الأقصى الروسي التي تعد الأقل ولاء لبوتين وحزبه "روسيا الموحدة"، وكان ذلك واضحاً دائماً في نتائج الانتخابات أيضاً. ولكن، بحلول اليوم، لم يعد مصنعو "بوتينكا" يركزون على تسويقها، فسقطت من علامات الفودكا العشر أو حتى العشرين الأكثر مبيعاً". كما لم يعد لـ"بوتينكا" أي وجود لافت في متاجر التجزئة الروسية.
أقاويل كثيرة أثيرت في روسيا حول دور الفودكا والمشروبات الروحية في تاريخها المعاصر، وصلت إلى حد الزعم أن برنامج مكافحة إدمان الكحول الذي اعتمده آخر زعماء الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، سرع انهيار الدولة السوفييتية، بعد أن كبد ميزانيتها خسائر فادحة بسبب تهاوي عوائدها الكحولية، في ظل احتكار الدولة لإنتاج الكحول وجميع الأنشطة الاقتصادية الكبرى.
هل ساهم برنامج مكافحة إدمان الكحول في تسريع انهيار الاتحاد السوفييتي؟
إلا أن بوزيريوف يقلل من أهمية مثل هذه المزاعم، قائلا: "تفكك الاتحاد السوفييتي هو حدث تاريخي معقد، ناجم عن مجموعة من العوامل، وهناك حتى الآن مبالغة في مساهمة رسوم إنتاج الفودكا في الميزاينة، وتدعو الأحزاب الشعبوية بمجلس الدوما (النواب) حتى اليوم إلى إعادة فرض احتكار الدولة لسوق الكحول، متحججة في ذلك بأن الفودكا كانت ذات يوم أهم مصادر تمويل خزينة البلاد، ولكنهم لا يذكرون أن ذلك كان يحدث في عهد روسيا القيصرية، قبل الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، حين لم تكن الخزينة تحصل على عوائد النفط والغاز على عكس ما كان عليه الحال في الحقبة السوفييتية أو اليوم".
ولا يزال الجدل دائرا حول من اخترع الفودكا، كونها مشروبا قديما انتشر بين مختلف الشعوب، ولكن عالم الكيمياء البريطاني، جورج غيلبين، كان له السبق عام 1792 في وضع المعادلة المثالية للفودكا، لاحتوائها على نسبة 38 في المائة من الكحول، ثم اقتبسه عالم الكيمياء الروسي الأشهر، دميتري مينديلييف، في رسالته للدكتوراه بعنوان "عن خلط الكحول بالمياه" في عام 1865، ما رسخ للاعتقاد الشائع بأن الفودكا هي اختراع روسي بامتياز.
وبحسب آخر تقديرات شركة "جي إف كيه" لدراسة الأسواق، فإن معدل استهلاك الفودكا في روسيا يبلغ 6.5 لترات سنوياً لكل عائلة، بينما بلغت نسبة العائلات التي اشترت زجاجة فودكا خلال آخر ستة أشهر، ولو لمرة واحدة، 32 في المائة مقابل 35 في المائة قبل جائحة كورونا في عام 2019.