ديرك بريكمان... حنين إلى أشياء غامضة

19 ابريل 2023
اللوحة هي أولاً وقبل كل شيء قصة نظرة (موقع المعرض)
+ الخط -

لا يترك المصور البلجيكي ديرك بريكمان جمهور معرضه المقام حالياً في مدينة كليرمون-فيران الفرنسية يخرجون منه كما دخلوه، بل بكثير من عدم الراحة والأسئلة التي تطرحها صوره المعتمة والرمادية. وربما ساهم عنوان المعرض، "أدلّة ممكنة"، على زيادة مساحة الحيرة لدى الجمهور الذين تعاملوا مع فوتوغرافيا بريكمان بالشكل التلصصي الذي أراده.

في كتاب سوزان سونتاغ الذي لا يصيبه القِدم "حول الفوتوغراف" (1977)، شبَّهت الصور التي تمثل "أناسًا بعيدين، أو منظرًا طبيعيًا بعيدًا أو ماضيا مندثرًا" بنار المدفأة التي تحفّز أحلام اليقظة. تقول: "الإحساس بالشيء بعيد المنال الذي نشعر به ونحن نتأمل الصور الفوتوغرافية يتغذّى على نحو مباشر على المشاعر الإروتيكية لأولئك الذين تتعزّز رغبتهم بالبعد. صورة العشيق مخبّأة في حافظة امرأة متزوجة، ملصق لصورة نجم من نجوم الروك معلّق فوق سرير مراهقة، زرّ صورة المرشح الانتخابي مثبّت على عروة سترة مُصوّت، صور أطفال سائق سيارة الأجرة معلّقة بمشبك على حافة زجاج السيارة الأمامي، كلّ هذه الاستخدامات الطلسمية للصور تعبر عن عاطفة مفرطة وسحرية ضمنية معاً".

بهذا المعنى، يتعامل ديرك بريكمان (1958) مع صوره الفوتوغرافية في معرضه الجديد الذي يستمر حتى منتصف مايو/ أيار المقبل، إذ تخرج إلى مرحلة اللوحة بعد التأثيرات اللونية التي يقوم بها عليها، فأغلب الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، وتظهر إمّا غرفاً مغلقة أو جدراناً قديمة أو أجساداً التقطت في لحظات مختلسة. نشاهد في إحدى الصور فتاة تجلس في شرفتها، في حين أن المصور يجلس عميقًا في الغرفة وبينه وبينها الباب الجرار للشرفة. وفي صورة أخرى، نرى صورة قديمة تبدو من العشرينيات مثنية، حتى أننا لا نرى وجه صاحبة الصورة، كأن بريكمان يطارد ماضياً لن يعود.

من الصعب أن نطلق على أعمال بريكمان صوراً فوتوغرافية عادية، لأنها تخرج من منطقة الفوتوغرافيا لتدخل سريعاً حيّز اللوحة التشكيلية التي تم التلاعب بسطحها اللمسي، فصارت محبّبة أو محفورة أو بارزة أو ناتئة. كلها معان حسّية تشتبك وتتقاطع مع أعمال ديرك بريكمان الجديدة، فاللوحة لديه أولاً وقبل أي شيء هي قصة نظرة. وليست تلك النظرة الأوّلية لعين عابرة، بقدر ما هي نظرة المتفحّص المتشكّك، والراغب في استعادة لحظة ضائعة. فما يظهر أمامنا من خيالات بشرية مظلّلة بالرمادي والأسود ما هي إلا أطياف لمن عبروا في حياتنا ذات لحظة ما.

صحيح أن مهمة الفوتوغرافيا كانت دائماً تثبيت لحظة عابرة من الزمن في محاولة لتخليدها، إلا أن الصور لدى بريكمان هي محاولة لاستعادة ذكرى قديمة، فالاهتزاز المقصود في صوره ليس إلا الضباب الذي يلف ذكرياتنا القديمة، ومحاولتنا كلّ مرة لمشاهدة هذه الصور ما هي إلا رغبة كامنة داخلنا لإزالة هذا الضباب وتثبيت هذه الأطياف قبل زوالها المحتم.

في نهاية الثمانينيات، عثر بريكمان على لغة بصرية خاصة به تركز على تحويل الصورة ذاتها إلى موضوع للوحة. هنا بدأ الفنان في استكشاف حدود وسيطه وتحدّى تقاليد التصوير الفوتوغرافي، حين بدأ يعكس فلاش الكاميرا على سطوح صوره الفوتوغرافية.

هذا الاهتمام بتقنية بريكمان دفع الناقد الفرنسي جان شارل فيغن إلى القول في تقديمه لمعرض بريكمان الجديد: "على مستوى تقني بحت، هذه الصور الفوتوغرافية هي في النهاية تصوير فوتوغرافي، لكنها مع ذلك تهرب من هذه الفئة لتنضم إلى فئة اللوحات المرسومة، فقد كان ديرك بريكمان رساماً منذ البداية، وكانت هذه الممارسة الأولية حاسمة في الطريقة التي أصبح بها التصوير الفوتوغرافي حافزًا لنظرة الرسام داخله. وهذا ما يجعلنا اليوم نتعامل مع أعمال بريكمان باعتبارها لوحات رسمها مصوّر فوتوغرافي". أضاف فيغن: "اللوحة هي أولاً وقبل كل شيء قصة نظرة. ما نراه من أعمال ديرك بريكمان ليس نظرة أولية بل نظرة خاصة إلى العالم، حيث يتمّ القبض على الأشياء في علاقة مستمرة مع التذكّر، وما يظهر في أعماله من ظلال وخيالات لبشر أو أماكن هو ما شوهد من قبل ثمّ نُسي جزئياً أو كلياً. إن التصوير الفوتوغرافي ليس سوى لفتة أولى من الالتقاط يُراد أرشفتها، أحياناً لسنوات، قبل استخراج الصورة، حين يريد المرء استعادة ذكرى قديمة، وكاختبار متكرر لذاكرة غير موثوق بها".

المساهمون