للوصف معان عدّة، تُعبّر عن مواقف يصعُب حصرها، لكنّ معظمها يصبّ في مجرى واحد: الحماقة، تلك التي أعيت من يداويها. إنْ اعتُمِدت هذه الترجمة للكلمة الفرنسية Con، لن يكون الاقتناع كاملاً. إنّها كلمة تستحيل ترجمتها. معناها الأصلي، بحسب قاموس "لاروس": اسم عضو المرأة. لكنّ استعمال هذه الشتيمة، يومياً، لدى الفرنسيين، حَوّرها تماماً، فدخلت بمعانيها الجديدة قواميس اللغات، وأصبحت تعبِّر عن كلّ شيء: أحمق، غبي، أبله، مُفغّل، ساذج، سخيف، حمار، وهذا بحسب ما يستدعيه الموقف، والمنعوت بها: قذر، عجوز، شاب، مسكين، إلخ. هذا لا يمنع أنّ من يُنعَت بها ربما يكون ذكياً، لكنّه قذر مثلاً، يترصّد شروراً لغيره، بإصراره على عدم الفهم، واتّخاذ مواقف أقلّ ما يُقال عنها إنّها غير نبيلة تجاه الآخرين.
هذه المقدّمة ضرورية، للدخول في أجواء الفيلم الأخير (2020) للفرنسي ألبر دوبونْتل، وفي رسمِه عالم اليوم، "وداعاً أيها المغفّلون" في ترجمةٍ سابقة على مُشاهدة الفيلم، أو "وداعاً أيها الحمقى"، بعد المُشاهدة. الحمقى، هؤلاء الذين يدّعون الفهم، ويظنّون أنّهم أذكياء. يُسيطرون على العالم بشرورهم، الواعية وغير الواعية. الفيلم ـ الفائز بـ7 جوائز "سيزار" (2021)، أبرزها في فئات أفضل فيلم (المنتجة كاترين بوزورغان) وأفضل إخراج وأفضل سيناريو أصلي (دوبونْتل) ـ يتصدّر الآن لائحة الأفلام الأكثر جذباً للجمهور في فرنسا، منذ إعادة فتح صالات السينما، في 19 أيار/ مايو 2021.
إنّه الفيلم السابع لدوبونْتل (حاز على "سيزار" مرّتين، سابقاً). دراما هزلية ودعابة قاتمة، تختلط فيها الأنواع السينمائية. فيلمٌ ساخر، يُعبّر ـ بأسلوب الفكاهة السوداء، والسخرية اللاذعة، ومن دون حرجٍ ـ عن مَشاعر وآراء مُخالفة للسائد، عن عالمٍ مُعاصر قاتم، تسيطر عليه التكنولوجيا الرقمية، ويغيب عنه الحبّ، ويحكمه نظامٌ أحمق. فيه 3 شخصيات، تلتقي صدفةً: سوز (فرجيني إيفيرا)، مُصفّفة شعر أربعينية، تُقرّر، بعد إصابتها بمرضٍ خطير، البحث عن ابنها، الذي أُجبرت على التخلّي عنه، بعد ولادته حينما كانت تبلغُ من العمر 15 عاماً. يقودها البحث إلى عالم المحفوظات في إدارة حكومية، حيث تضعها ظروف غريبة وغير متوقّعة في مواجهة عالِم كمبيوتر مُحبط، يُدعى جي. بي. (دوبونْتل)، خلال محاولته الانتحار. فهو، رغم إخلاصه في مهمّاته، مُكرّساً حياته للكمبيوتر ـ وعمله، تمّ حرمانه من ترقية مُنتظرة. يُقرّر أنْ يفعل ما بوسعه لمساعدتها، كي تعثر على ابنها الشاب. في البدء، كان مُجبراً، لحيازتها على دليلٍ يُبرّئه من تهمة، ثم لاقتناعه بمهمّتها، وبدء تسرّب شعور غريب عليه: على الميل إليها. ينضمّ إليهما موظّف أرشيف أعمى (نيكولا مارييه، "سيزار" أفضل دور ثان)، فينطلق الثلاثة في مغامرة حافلة بالصدف والعبث والأزمات والتحدّي لنظامٍ مُبرمجٍ في توجّهات واحدة، يُفبرك الاتّهامات (الإرهاب مثلاً) بكلّ ثقة، ويُؤوّلُ التصرّفات في ضيق أفق وغباء، مُتوهّماً الذكاء والفعالية.
الصدفة تُحرّك الأحداث، في فيلمٍ قائمٍ على المواجهة بين شخصيات تائهة، يُغرقها النظام السائد في عوائق وأزمات، تسعى بإصرار إلى التغلّب عليها لتحقيق ما تصبو إليه: العثور على الابن، أو أيّ هدفٍ آخر. الصدفة ربما تكون لقاءً غير مُتوقّع بين الشخصيات، أو تشابه شخصية الابن وشخصية البطل، لكونهما غارِقَين في عالم الكمبيوتر، ويتحلّيان بخجلٍ وتردّد في التعبير عن عواطفهما، في هذا العالم الجاف. صدفٌ مقبولة، في فيلمٍ يعتمد الخيال والمواقف العبثية، في أسلوب إخراجيّ يُبهر بتمكّنه، في المراحل كلّها، من تمرير أفكار وخطابٍ ينأيان عن المُباشرة. دوبونْتل يرسم ـ عبر الدعابة والعاطفة ـ عالماً مُعاصراً مَقيتاً يتبدّل، ليس نحو الأفضل، في قفزات سريعة. عالمٌ يُقمَع فيه الحب، وتُدفن فيه الإنسانية، وتسيطر فيه التكنولوجيا الرقمية، مُمثّلة بشخصية البطل، الذي يضرب على أزرار الكمبيوتر من دون توقّف.
عالمٌ مُخيف، يُمكن فيه إعطاء معلوماتٍ فورية وواضحة ومُرعبة عن أيّ يكن وأيّ شيء. عالمٌ يضطهد الإنسان، ويستعد للتخلّي عنه ورميه كخرقةٍ، متى قرّر أنْ ذلك أجدى له اقتصادياً.
تعمل الأمكنة والإضاءة والديكور في توافق تام مع الإخراج. إضاءة صفراء كئيبة تسود أمكنة محصورة وضيّقة، كأنّها من ورق مصقول، سواء في العمل أم في شوارع المدينة أم في شكل المنازل من الخارج. في سخرية لا تُخفى من مكاتب العمل المفتوحة، والمجمّعات السكنية المتشابهة، والأبراج المتزايدة التي تُدمَّر لأجلها أحياء "إنسانية".
مشهد سوز في سيارتها، وهي تبحث عن بيت ابنها في المدينة الصغيرة برفقة رجل الأرشيف الأعمى، من أجمل مَشاهد الفيلم، وأشدها تعبيراً عن تغيرات الأمكنة في العالم المعاصر. في حيّ قديمٍ، كان أليفاً له قبل أنْ يفقد بصره، راح يُرشدها: "ستعبرين أمام مقهى كان ملتقى سكّان الحيّ، ثمّ دار سينما أمضينا فيها أجمل الأوقات. ستلفّين عند بيت صغير جميل من قرميد"، إلخ. هذا والكاميرا تمرّ على مقهى مهجورٍ، ودار سينما لم تعدْ تعمل، وبيتٍ لا أثر له، أمامه لوحة إعلانية عن تجمّع سكني حديث.
شخصيات دوبونْتل مُقاوِمة للنظام. تبحث عن مكان لها، وتصطدم بالخطاب السائد والأحكام المسبقة والتصنيفات، وبقوى لا إنسانية تسعى إلى إزاحتها، بوضعها في الأرشيف، أو بتدمير إنسانيتها. هذا كلّه يُعالَج في حبكة قائمة على السخرية والمواقف المضحكة الناجحة، وإنْ كان بعضها مُبالغ في عاطفيّته، كموقف الأم وهي تخاطب ابنها عن بُعد.
فيلمٌ مؤثّر وصادم في رسمه هذا العالم. لكنّه لا يغفل الإمتاع. يبثّ شيئاً من الأمل. فدوبونْتل وجد الحلّ للخروج من العزلة الإنسانية الموحشة، مُجسَّداً بالحبّ الذي ينمو تدريجياً في قلوب أبطاله، رغم عالمٍ يسرق إنسانيّتهم.