دفاتر فارس يواكيم: فاتن حمامة "سيدة الشاشة العربية"

20 مارس 2023
قابلت عمر الشريف خلال تصوير "صراع في الوادي" (Getty)
+ الخط -

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.

تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.

في عام 1968، عملت مساعداً ثانيًا للمخرج هنري بركات في فيلم "الحب الكبير" الذي جرى تصويره في بيروت. كان المساعد الأول يوسف شرف الدين الذي أصبح فيما بعد مخرجاً. كنت سعيدًا للغاية إذ أتيحت لي الفرصة لأعمل مع مخرج كبير، أنا معجب بأفلامه. كانت مهمتي أن أراجع الحوار مع نجوم الفيلم قبل تصوير مشاهدهم ومساعدتهم على التذكّر، وكانوا: فريد الأطرش وفاتن حمامة ويوسف وهبي وعبد السلام النابلسي
كنت أعرف اثنين منهما: يوسف وهبي وعبد السلام النابلسي، وأترقب بلهفة لقاء الموسيقار القدير والنجمة حاملة لقب "سيدة الشاشة العربية". في ختام أول لقاء وكان موجزاً لأنها كانت تحفظ دورها تماما، سألتني: "لهجتك مصرية، إنت مصري؟" أجبتها: "أنا مولود في الإسكندرية ابن عائلة لبنانية، ودرست في القاهرة وتخرجت في المعهد العالي للسينما". تعمّدت ذكر معهد السينما لكي يطول الحديث، وكان أن سألتني/ "كنت على إيام محمد كريم؟"، قلت: "نعم، كان عميد المعهد وكنا نسمّيه الجنرال الألماني". ضحكت وقالت: "المرحومة زوجته كانت ألمانية. هو أخرج أول أفلامي"، علّقتُ فوراً: "يوم سعيد... مع عبد الوهاب". قالت ممازحة: "إنت مذاكر كويس". ذكرت أن محمد كريم عرض الفيلم لنا وأضفت: "حضرتك كنتِ أجمل طفلة في السينما المصرية". شكرتني بابتسامة مهذبة وانصرفت. 
كنت أعرف الكثير عن فاتن حمامة. كنتُ قرأت أنها اختيرت وهي في التاسعة من عمرها "أفضل طفلة"، وأن أباها أرسل صورتها للمخرج محمد كريم، الذي كان يبحث عن طفلة تؤدي دوراً في فيلم "يوم سعيد" (1940). ولم يُجرِ اختباراً لها إذ أعجبته طريقة كلامها. وهي نجحت تماماً في أداء الدور، الأمر الذي جعل محمد كريم يسند لها دوراً في الفيلم التالي "رصاصة في القلب" بطولة محمد عبد الوهاب أيضاً. وكنت أعرف أنها خريجة الدفعة الأولى في "معهد التمثيل" سنة 1947، وكان بين أساتذتها آنذاك زكي طليمات وجورج أبيض. هذا يعني أنها درست تاريخ المسرح وتدرّبت على أيدي كبار المخرجين على أداء أدوار في مسرحيات عالمية. استرجعت هذه المعلومات وخططت أن تكون مدخلاً لحديث إضافي مع النجمة الكبيرة في ختام البروفة التالية. 
صغت السؤال كما يلي: "في العادة، يدرس الهواة التمثيل في معهد، لكي تفتح لهم شهادة التخرج أبواب العمل الاحترافي. حضرتك كنت ممثلة ومتعاقدة على أفلام حين التحقتِ بالمعهد، فما الدافع إلى الدراسة؟". أجابت: "صحيح... كنت أعمل فعلاً، لكنني أحببت أن أدرس التمثيل على أصوله. الدراسة مهمة، والموهبة طبعاً. إذا كانت الموهبة مفقودة فلا تكفي الدراسة للنجاح. وعندنا نجوم كبار لم يدرسوا في معهد، لكن الموهبة الأكيدة تصقلها الخبرة. الدراسة للموهوب تختصر سنوات الخبرة". عددتُ أسماء زملائها في الدراسة: شكري سرحان، وفريد شوقي، وعمر الحريري، ونبيل الألفي، وحمدي غيث، فقالت "كل هؤلاء موهبة زائد دراسة، ولذلك نجحوا. الألفي وحمدي غيث كانت شهرتهما في المسرح أكثر. وكلنا اشتغلنا بسرعة. شكري سرحان وعمر الحريري اشتركا معي في فيلم "كرسي الاعتراف" ليوسف وهبي، وفي "ابن النيل" ثاني أفلام يوسف شاهين وفي أول أفلامه "بابا أمين" كنت البطلة، واشترك معنا فريد شوقي، وهو كان معي أيضاً في "ملائكة في جهنم"، أول فيلم يخرجه حسن الإمام".

أقامت فاتن حمامة في بيروت خمس سنوات

وجدت في البحث لاحقاً أن فاتن حمامة كانت البطلة أيضاً في أول فيلم أخرجه كمال الشيخ "المنزل رقم 13". كما وجدت أن بركات يتصدّر قائمة المخرجين الذين تعاونت معهم. أخرج 18 فيلماً من بطولتها، بينها روائع مثل "دعاء الكروان" و"الحرام" و"الباب المفتوح". ومن إخراج يوسف شاهين، قامت ببطولة ستة أفلام، أبرزها "صراع في الوادي" الذي تقابلت فيه مع الوجه الجديد عمر الشريف، الذي أصبح الوجه الجديد في حياتها، تزوجته بعد حب عارم، وكانت قد تطلّقت من زوجها الأول المخرج عز الدين ذو الفقار. كان المخرج حلمي حليم كاتب قصة "صراع في الوادي". وكان من أساتذتنا في معهد السينما، وقد أطلقنا عليه نحن الطلبة لقب "الملحق الثقافي في سفارة فاتن حمامة". ضحكت حين أخبرتها عن ذلك اللقب، وأوضحت "نعم، هو كان مستشاري في الأفلام. كنت أعرض عليه السيناريوهات المقترحة من المنتجين، وكان يبدي رأيه السديد. كان مثقفاً وعنده ترمومتر يقيس به أثر الفيلم في المتفرجين. كان يقوم بالرتوش أحياناً ليجعل دوري أكثر ملاءمة لشخصيتي. كان مثقفاً فعلاً". 
أقامت فاتن حمامة في بيروت خمس سنوات. جاءت إليها في خريف 1966، وكانت تغادرها إلى لندن في زيارات طويلة وتعود إليها. في لندن، كان يقيم زوجها عمر الشريف وولدهما طارق. كان عمر الشريف قد أصبح نجماً سينمائياً عالمياً، الأمر الذي جعله يبتعد عن فاتن بسبب إقامته في أوروبا وفي هوليوود، وفي الواقع، كانت هذه المرحلة بداية الابتعاد العاطفي أيضاً. أقامت فاتن حمامة في بيروت في الفترة التي انتقل فيها بعض العاملين في السينما المصرية إلى العاصمة اللبنانية. إلى صباح وعبد السلام النابلسي، انضم فريد شوقي ورشدي أباظة ومريم فخر الدين، فضلاً عن يوسف وهبي وفريد الأطرش وهنري بركات ويوسف شاهين، والمنتج والموزّع جان خوري، والمخرج حسن الإمام والمونتير إميل بحري، ومهندس الديكور هاغوب أصلانيان، ومدير التصوير برونو سالفي، والماكيير يوسف محمود. وقبل أن تتولى فاتن بطولة "الحب الكبير"، كانت بطلة فيلم "رمال من ذهب" وهو إنتاج لبناني – إسباني – مغربي مشترك، أخرجه يوسف شاهين (سنة 1966) واشترك فيه ممثل فرنسي من الصف الثاني بول بارج، وممثلون إسبان والمطرب المغربي عبد الوهاب الدوكالي، مع ضيفي الشرف دريد لحام ونهاد قلعي. وللأسف، كان فيلماً فاشلاً، لا يأتي على ذكره الذين عملوا به، وتجنبتُ الحديث عنه أمام النجمة الكبيرة، كما تجنبت الحديث عن عمر الشريف. 
لكنني تكلمت بإسهاب عن بركات، وهيأت كلاماً أقوله عن فيلم "الحرام" كنت واثقاً من أنها ستصغي إليه باهتمام. أخبرتها أنني كنت في السنة الثالثة في المعهد العالي للسينما، حين زار القاهرة المؤرخ والناقد السينمائي الفرنسي جورج سادول، مؤلف الكتاب المرجع "تاريخ السينما". وألقى محاضرة في المعهد، تكلّم عن الأفلام المصرية ذات القيمة الفنية العالية، وتوقف عند فيلم "الحرام" الذي أخرجه بركات عن رواية يوسف إدريس. أشاد بالفيلم وقد اعتبره أفضل فيلم مصري شاهده، وقال: "وقد يكون تعبير "أفضل" مستغربا في الأحكام الفنية، لكنني لم أجد كلمة أخرى تعبّر عن إعجابي". وأعرب عن انبهاره بمشهد بالذات، المشهد الذي تلد فيه فاتن حمامة جنينها في الحقل. "برأيي هذا أهم مشهد سينمائي واقعي. متقن الإبداع في الكتابة الدرامية وفي الإخراج وفي أداء فاتن حمامة". فرِحَتْ جدا بما سمِعَت، وسألتني إن كنت أخبرت بركات بذلك، فقلت "من زمان". وذكرت أنني سأنشر هذا الكلام في مقالة نقدية عن فيلم "الحرام". وبالفعل، نشرت ذلك في "الديار" وكانت تصدر آنذاك مجلة أسبوعية. كنت تركت العمل في فيلم "الحب الكبير" على وعد لم يُنفّذ بالعمل مساعدَ المخرج الأول في فيلم آخر، فخرجت من الفيلمين صفر اليدين. المهم أنني أرسلت لفاتن حمامة نسخة من المجلة، وأتاني ثناء منها حمله لي جورج إبراهيم الخوري، رئيس تحرير مجلة "الشبكة".

أدت دورها في فيلم "كايرو" البريطاني باللغة الإنكليزية

في عام 1971، انتهت غربتها الاختيارية في بيروت ولندن، وعادت إلى قواعدها في القاهرة بترحيب كبير من الإعلام وأهل السينما والجمهور. أطلت بفيلم "الخيط الرفيع" من إخراج بركات، الذي كالعادة أخرج مجموعة من أفلامها الجميلة في تلك المرحلة: "لا عزاء للسيدات" و"أفواه وأرانب" و"ليلة القبض على فاطمة"، فضلا عن أفلام بإدارة مخرجين مرموقين لقيت ثناء النقاد والجمهور معا، مثل: "إمبراطورية ميم" (حسين كمال) و"أريد حلاً" (سعيد مرزوق) و"يوم مرّ ويوم حلو" (خيري بشارة) و"أرض الأحلام" (داود عبد السيد) وهو آخر أفلامها السينمائية (سنة 1993). كما قامت ببطولة مسلسلين للتلفزيون أحدهما "ضمير أبلة حكمت". 
وأضيف إلى الباقة السابقة ما يشبهها من أفلام المرحلة السابقة للغربة، مثل: "بين الأطلال" و"نهر الحب" (عز الدين ذو الفقار) "الأستاذة فاطمة" (فطين عبد الوهاب) "لا وقت للحب" و"لك يوم يا ظالم" (صلاح أبو سيف)، وكان أول أفلام فاتن حمامة في مهرجان كان السينمائي الدولي، وبعده "صراع في الوادي" و"الليلة الأخيرة" (كمال الشيخ) و"الحرام". وهي استقبلت بحفاوة أيضا في مهرجانات دولية أخرى، ونالت جائزة أفضل ممثلة في مهرجان جاكارتا (1964) عن دورها في فيلم "الباب المفتوح". 
في فترة تصوير فيلم "الحب الكبير"، أجرى معها صحافي فرنسي مقابلة. سمعتها تتكلم اللغة الفرنسية بطلاقة. وتذكّرت أنها كانت تجيد اللغة الإنكليزية أيضا. في فيلم "كايرو" البريطاني الذي أنتجته شركة "مترو غولدوين ماير" في القاهرة سنة 1963، أدّت فاتن حمامة (وأحمد مظهر أيضا) دورها باللغة الإنكليزية. كان الفيلم من بطولة الممثل البريطاني جورج ساندرز، بالاشتراك مع فاتن حمامة وأحمد مظهر وكمال الشناوي وشويكار ومجموعة من الممثلين البريطانيين. كان فيلما متوسط الجودة. أنتجته الشركة الهوليوودية الشهيرة، لأن القوانين الاشتراكية المطبّقة في مصر آنذاك لم تكن تسمح للشركات الأجنبية بتحويل أرباحها التي تجنيها من السوق المصرية إلى الخارج، بل كان ينبغي أن تستثمر نصفها على الأقل في مصر.

كنت أودّ أن تسنح لي الفرصة لأطرح على النجمة القديرة سؤالا عن سبب مشاركتها في فيلم "كايرو" وبعده في "رمال من ذهب". والحق يقال أن أداءها كان جيدا بصرف النظر عن مستوى هذين الفيلمين. تُرى هل كانت لديها الرغبة في أن تثبت أنها هي الأخرى مطلوبة في أفلام عالمية؟ علما أن أدوارها في أفلامها المصرية أهم بكثير، ومنها الأفلام التي شاركت في مهرجانات دولية والتي استحقت عليها الثناء. 
وكنت أودّ أن أكتب عنها مقالة ألقي فيها الأضواء على مسيرتها المهنية، على احترامها لعملها، على الحد الأدنى من الاتقان، حتى في أضعف أفلامها؛ وأمحو فيها الصورة النمطية التي راجت بأقلام كتبت عنها أنها استثمرت أدوار الفتاة المظلومة برومانسية لكسب ودّ الجمهور. ليس هذا صحيحاً. فهي أيضا أدّت أدوار الفتاة الشريرة في "لا أنام" والأرملة المناضلة في "يوم مر ويوم حلو"، وفي أفلام أخرى تبنت قضايا الدفاع عن المرأة بوعي. صحيح أنها حرصت على "الشياكة" في أدوار تتطلّب العكس، لكن هذه نقطة ضعف يُسأل عنها المخرجون أيضا. 
ختاما، كنت أودّ أيضا الإشارة إلى أن فاتن حمامة كانت ظاهرة فريدة في السينما المصرية. فجمهورها من الرجال والنساء على حد سواء. وجيل الآباء كما جيل الأبناء. وقد جرت العادة أن تكون نسبة الرجال أعلى بين جمهور الممثلات ونسبة النساء أعلى في جمهور الممثلين. لكن فاتن حمامة "غير شكل". لم تسنح لي الفرصة لأنشر ذلك من قبل، لكنني أكتب ذلك الآن.               
        

المساهمون