بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
كان عمر خورشيد من أبرز عازفي الغيتار في زمانه. وعندما أدخل محمد عبد الوهاب رنين الغيتار لأول مرة في أغاني أم كلثوم، في لحن "إنت عمري" ظن كثيرون أن العازف هو عمر خورشيد. ولم يكن الأمر كذلك. كان عازف الغيتار هو عبد الفتاح خيري، الذي يتقن العزف على هذه الآلة، كما يتقن العزف على الكمان. وقد أخبرني الصديق الإعلامي المصري محمد دياب أنه شاهد عبد الفتاح خيري في حفلة عامة من حفلات أم كلثوم يعزف على الغيتار، ثم لا يلبث أن يتركه جانباً، ويكمل العزف على الكمان. وهو رافق أغاني أم كلثوم عزفاً على الغيتار في أغان عدة، منها "أمل حياتي" و"فكروني" و"هذه ليلتي"، حتى سنة 1970 التي حلّ فيها عمر خورشيد محله بدءاً من "ودارت الأيام".
كأنما كُتب على عمر خورشيد أن يخلف عبد الفتاح خيري، الذي شارك بالعزف على الغيتار حين غنّى عبد الحليم حافظ "سوّاح" لأول مرة في القاهرة، لكن العازف في حفلة تونس كان عمر خورشيد. وكانت سنة 1970 ذهبية في مسيرة عمر خورشيد الفنية، إذ تكرس فيها نجم العزف على الغيتار مرافقاً كبار نجوم الطرب من وزن أم كلثوم وعبد الحليم حافظ. بعد "ودارت الأيام" عزف الغيتار في "أغداً ألقاك" و"ليلة حب" من ألحان محمد عبد الوهاب. وكان قد شارك بالعزف في أغنية "من أجل عينيك" التي لحنها رياض السنباطي لكوكب الشرق سنة 1971. وكان في عداد الفرقة الموسيقية التي رافقت أم كلثوم لدى تقديم "الحب كله" و"ألف ليلة" من ألحان بليغ حمدي، ولدى تسجيل آخر أغنية أنشدتها "حكم علينا الهوى" من ألحان بليغ حمدي أيضاً، وقد سجلتها في الإذاعة المصرية سنة 1973، لكنها لم تتمكن من تقديمها في حفل أمام الجمهور، إذ اعتزلت قبلها الغناء.
أما مع عبد الحليم حافظ، فبعد أغنية "سواح" رافقه في أغان عدة من ألحان بليغ حمدي، ومنها "زي الهوا" و"مداح القمر" و"أي دمعة حزن لا" وكانت آخر مرة يشارك فيها عمر خورشيد عازفاً على الغيتار في حفلات عبد الحليم حافظ، في شهر يونيو/حزيران 1974. وفي هذا الحفل أيضاً عزف عمر خورشيد مع الفرقة لحن محمد عبد الوهاب "فاتت جنبنا"، وكان عبد الحليم حافظ قد غنّاها ليلتها لأول مرة أمام الجمهور.
لكن الذي اكتشفه كان الملحن محمد سلطان الذي ضمّه إلى الفرقة الموسيقية عازفاً منفرداً لأول مرة في حفل "أضواء المدينة" سنة 1969 الذي غنّت فيه فايزة أحمد "خلّيكو شاهدين". وقد روى سلطان أنه كان برفقة زوجته فايزة واستمعا إلى عمر خورشيد يعزف مع فرقة "لي بوتي شاه" Les Petits Chats التي كانت من أبرز الفرق الشبابية، أسسها في مطلع الستينيات مجدي فرنسيس، وكانت تضم عمر خيرت وعزت أبو عوف وعمر خورشيد.
كان عمر خورشيد في الرابعة والعشرين من عمره عندما بدأت مسيرته الاحترافية مع مشاهير الطرب، إذ هو من مواليد القاهرة في ربيع 1945. أبوه أحمد خورشيد، مدير التصوير الشهير في الأفلام المصرية، وأمه عواطف هاشم (وليس اعتماد خورشيد كما يظن البعض). وقع الطلاق بينهما وكان عمر في سن الطفولة فتولّت أمه حضانته. وهي بعد بضع سنوات تزوجت لفترة قصيرة رجلَ أعمال يدعى أحمد الشلقاني وأنجبت منه شريهان، التي أصبحت "نصف شقيقة" ونجمة تمثيل الأفلام السينمائية والمسرحيات. كانت في السادسة من عمرها عندما مثلت دور طفلة في فيلم "نصف دستة أشرار"، وفي مشاركتها الثانية، وهي مراهقة في الرابعة عشرة من عمرها، في فيلم "قطة على نار" كان أخوها عمر مؤلف الموسيقى التصويرية.
تلقّى عمر وهو في التاسعة من عمره آلة غيتار هدية، فعشق ذلك الغيتار ومداعبة الأوتار إلى درجة أنه أهمل الدروس لصالح العزف على آلته المحببة، فما كان من أمه إلا أن حطّمتها لأنها تشغل ولدها عن واجباته المدرسية. تحطمت الآلة، لكن حبّها لم ينكسر في قلب الطفل عمر، حتى إذا شبّ ونال ليسانس الآداب من جامعة القاهرة، عاد طالباً، في المعهد اليوناني الموسيقي، وكرّس عشقه للغيتار. بعدها ساهم في تأسيس فرق موسيقية غربية يفرط عِقدُها بعد انتهاء عَقدِها مع الفندق أو المطعم، إلى أن انضم إلى فرقة "لي بوتي شاه" فكانت المنصّة التي قفز منها إلى ملاعب الاحتراف.
وكان المنتج والمخرج السينمائي حلمي رفلة أول من أدرك إمكان استثمار شعبية عازف الغيتار المحبوب والشاب الوسيم عمر خورشيد في الأفلام، فتعاقد معه سنة 1971 لتمثيل دور رئيسي في فيلم "ابنتي العزيزة" مع نجاة الصغيرة ورشدي أباظة ونجمة الباليه ماجدة صالح. وفضلاً عن ظهوره على الشاشة كأحد نجوم التمثيل، كانت المرة الأولى التي يتولّى فيها تأليف الموسيقي التصويرية لفيلم سينمائي. أتبع حلمي رفلة التعاون بفيلم "ليلة حب أخيرة" وفيه اكتفى عمر خورشيد بتأليف الموسيقى التصويرية. وبلغ مجموع الأفلام السينمائية التي ساهم فيها 53 فيلماً، منها أحد عشر فيلماً قام فيها بالتمثيل ووضع الموسيقى، ومعظم الأفلام (42) كان فيها مؤلف الموسيقى التصويرية من دون تمثيل، أبرزها: "قاع المدينة" و"الرصاصة لا تزال في جيبي" و"الإخوة الأعداء" و"العذاب فوق شفاه تبتسم" و"أين عقلي". وكان حلمي رفلة هو الأكثر تعاوناً مع عمر خورشيد في أحد عشر فيلماً من إخراجه.
فضلاً عن التمثيل وتأليف الموسيقى التصويرية، أنتج عمر خورشيد فيلماً واحداً بعنوان "العاشقة" سنة 1980، وكان من إخراج عاطف سالم، وقد شاركته نيللي البطولة. في هذا الفيلم كان عمر خورشيد المنتج والممثل ومؤلف الموسيقى التصويرية والمغنّي! كان دوره مدرساً للموسيقى للأطفال، ولهم غنّى "الكتكوت والبيضة" من كلمات شوقي حجاب ولحن هاني شنودة، وتجربة الغناء لم تتكرر. وكان فيلم "دموع في ليلة الزفاف" آخر ظهور على الشاشة لعمر خورشيد، مؤلفاً للموسيقى وممثلاً مع فريد شوقي وبوسي، وكان عرضه الأول يوم 25 مايو/أيار سنة 1981، أربعة أيام قبل وفاة العازف النجم! أما آخر مساهمة له فكانت تأليف الموسيقى لفيلم "الخبز المر" من بطولة فريد شوقي ومحمود عبد العزيز وشويكار وأخته شريهان، وقد عُرض بعد وفاته.
عرفتُ عمر خورشيد في بيروت سنة 1973 وقد أقام فيها عاماً وبضعة أشهر. كان يقدم في مربع "الإيبي كلوب" وصلة عزف على الغيتار، تلي عرض "صرنا صلح" وهو تأليفي، من لون "الشانسونييه". جمعنا المكان، وكنا نلتقي فيه كل ليلة، ونشأت بيننا صداقة تطورت إيجابياً. وفي هذه السنة شارك صباح وجورجينا رزق، التي كانت آنذاك قد انتُخبت ملكة جمال العالم، في بطولة فيلم "غيتار الحب" الذي يظهر اسمي في عناوينه مؤلفاً للقصة والسيناريو والحوار بالاشتراك مع مخرجه محمد سلمان. والحقيقة أنني مؤلف لفكرة الفيلم فقط، التي تغيّرت إلى فكرة أخرى خلال التنفيذ. كانت الفكرة ابتكار قصة تدور حول وقوع أمٍ وابنتها في غرام الشاب ذاته، والصراع الدرامي الذي ينشأ عندما تعرفان الحقيقة. في الفيلم تحولت صباح وجورجينا رزق إلى شقيقتين، الأمر الذي جعل المنافسة باهتة بين الأختين. أراد محمد سلمان أن يجاملني بوضع اسمي شريكاً له في السيناريو والحوار، ولم أكن راضياً لأنني لم أكتب حرفاً واحداً في هذا السيناريو والحوار. كما لم يكن عمر خورشيد راضياً عن الفيلم. نشأ عن ذلك جفاف في علاقة الصداقة مع محمد سلمان، إلى أن جرت المصالحة على يد المنتج السوري نادر الأتاسي، وفي الجلسة دافع المخرج عن نفسه بقوله "ماذا أفعل؟ لقد رفضت صباح أن تقوم بدور أم". والطريف أن هذا الفيلم عرف إقبالاً كبيراً، لمجرد وجود ثلاثة أسماء محبوبة في أدوار البطولة.
الفيلم الثاني الذي شارك فيه عمر خورشيد سنة 1975 في لبنان، ممثلاً دوراً رئيسياً ومؤلفاً الموسيقى التصويرية، كان فيلم "سيدتي الجميلة" من إخراج حلمي رفلة. وبهذا العنوان عُرض في لبنان وعموم العالم العربي، أما في مصر فقد عُرض باسم "النشّالة". وهو من بطولة نيللي ومحمود ياسين وعماد حمدي وحسن مصطفى والنجم الكوميدي اللبناني شوشو، الذي كان منتج الفيلم أيضاً. وكنتُ فيه كاتب السيناريو والحوار مستوحياً مسرحية "بيغماليون" لبرنارد شو، وناظمَ أغنية لحّنها عمر خورشيد وغنّتها نيللي. أما أغنيات الفيلم فكتبها فتحي قورة ولحنها حلمي بكر. أُنتج الفيلم بُعَيْد اندلاع الحرب في لبنان، الأمر الذي حال دون تصوير مشاهد الحارة الشعبية لإظهار البيئة الفقيرة التي نشأت فيها البطلة، وهي مناقضة لتلك التي عاشت فيها من بعد في أجواء الرخاء والثراء. جرى التصوير في حي تسكنه الطبقة الوسطى، فلم يَعُد التناقض جليّاً كما ينبغي. عدا ذلك، فالفيلم جاء جيداً، أقبل عليه الجمهور، ولم ينعم المنتج شوشو بإيراداته إذ بدأ عرضه بعد وفاته.
وكانت سنة 1974 مثمرة للغاية، أدّى فيها عمر خورشيد دور البطولة المطلقة، لأول مرة، أمام ناهد شريف في الفيلم السوري "غراميات خاصة" الذي صوّر في دمشق، بإخراج العراقي فيصل الياسري، عن سيناريو اشترك فيه المخرج مع زميله المخرج سيف الدين شوكت. كان فيلماً جريئاً في طرح موضوع العلاقات الجنسية، وكاد يلامس حدود الإباحية. ثم عاد عمر خورشيد إلى القاهرة فقام بتأليف الموسيقى التصويرية لعشرة أفلام. وأدّى دوراً رئيسياً في مسرحية "كباريه" مع نيللي وسعيد صالح، وهي من إخراج جلال الشرقاوي. كانت المرة الأولى والأخيرة التي يقف فيها عمر خورشيد على خشبة المسرح.
خلال إقامته في لبنان في منتصف سبعينيات القرن العشرين، التقى خبيرة التجميل دينا، وهي لبنانية - فرنسية. نظرة فسلامٌ فكلامٌ فصداقة فعلاقة عاطفية فقصة حبٍّ انتهت بالزواج، وقد ظلت دينا زوجته حتى وفاته. وكان العازف الوسيم قد تزوّج سرّاً من الممثلة المعروفة مها أبو عوف. كان زواج عمر خورشيد من دينا هو الثالث، بعد سيدة مصرية، ثم الممثلة المصرية الشهيرة ميرفت أمين، وكانت الزيجتان لفترة قصيرة. ولم ينجب عمر خورشيد أولاداً من زيجاته جميعها.
ليلة وفاته كان عمر خورشيد يقود سيارته وبجواره زوجته دينا، وفي السيارة التالية كانت الممثلة مديحة كامل. كانوا متوجّهين إلى منطقة الهرم. وقرب مطعم خريستو، طاردت عمر خورشيد سيارة بها رجلٌ طارده من قبل مرتين وشتمه بعبارات بذيئة، وكان العازف أخبر دينا بذلك. وفي المرة الثالثة حاول عمر خورشيد تجنّبه وأسرع في القيادة، وكان أن اصطدمت السيارة بعامود الكهرباء، إصابة قاتلة. أما زوجته فلمّا أفاقت من الغيبوبة، أفادت بحكاية الرجل الغريب المُطارِد، وهي رواية أكّدتها مديحة كامل. رجّحت الظنون أسباباً سياسية كانت دافع المطاردة، لكن التحقيق القضائي لم يحسم الأمر. مات عمر خورشيد في ربيع 1981 وهو في ربيع العمر.