دفاتر فارس يواكيم: روميو لحود أودع أعماله جمهور الغناء ورحل

22 مايو 2023
نشأته الفنية الأولى كانت في مجال الفن التشكيلي (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
 

يُذكَرُ المسرح الغنائي في لبنان، فيتبادر إلى صدارة الأذهان أسماء الأخوين رحباني وروميو لحود. ومن الطبيعي أن تكون هناك أوجه شبه عدة بين التجربتين، كما أن الاختلاف متوقع وحتمي. وعرض التفاصيل، ليس بقصد المفاضلة، وإنما لتمييز الخصائص الفنية لكلٍّ منهم. 
حين أنتج هؤلاء المسرحيات الغنائية، كان هذا اللون غائباً عن فضاءات الموسيقى العربية، منذ وفاة المبدع سيد درويش، ما عدا مساهمات فردية لم تتكرر من زكريا أحمد ومحمد القصبجي. كان الاهتمام في العالم العربي منصبًّا على الأغنية الفردية التي تتطلب مجهودًا أقل، ورواجاً أسهل. بينما المسرح الغنائي يشتمل على مجموعة من الألحان الفردية والجماعية والثنائيات والموسيقى التصويرية. 
وليد غلمية وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وسواهم، أبدعوا في مجال المسرح الغنائي، لكن إنتاجهم ظل متفرّقا وعابرًا ولم يكتسب صفات الثبات والاستمرارية والحضور في كل موسم. معظم مسرحيات الأخوين رحباني عُرض في مسرح البيكاديللي في بيروت، أما روميو لحود فقدّم عروضه في مسارح أسّسها: في فندق فينيسيا، وفندق المارتينيز، ثم مسرح الإليزيه.

روميو واخوه ناهي (أرشيف ناهي لحود)
روميو وشقيقه ناهي (أرشيف ناهي لحود)

تشابه الأخوان رحباني وروميو لحود أيضاً، في موضوع "المؤسسة العائلية المنتجة" التي يتمتع أفرادها بمواهب متنوعة تتكامل في إطار الإنتاج المسرحي. هنا الأخوان عاصي ومنصور الرحباني، وفيروز زوجة عاصي، وهدى شقيقة فيروز، ثم الياس شقيق عاصي ومنصور، وزياد نجل عاصي وفيروز. وهناك المؤسس روميو لحود، يعاونه في إدارة الإنتاج وهندسة الصوت شقيقه ناهي. وأختهما أمل (الشهيرة بلقب بابو) هي مصممة الأزياء، والأخت الكبرى ألين لحود كاتبة النصوص الدرامية في معظم الأعمال، والأخت الصغرى ناي، أبرز راقصات الفرقة. وبعد زواج ناهي لحود من سلوى القطريب، أصبحت سلوى بطلة عروض الفرقة، وشقيقتها كوثر من العناصر الفنية الدائمة الحضور.
وفي المسرَحَيْن فرقة فنية غنائية بها عناصر ثابتة. هنا فيروز، وحولها نصري شمس الدين وفيلمون وهبي ووليم حسواني وإيلي شويري وهدى وجوزيف ناصيف. وهناك صباح، وجوزف عازار وسمير يزبك وعصام رجي، ومقابل فيلمون وهبي كعنصر كوميدي حلّ شوشو في بعض المسرحيات ضيفا، وأحيانا كان الياس الياس يؤدي الدور الفكاهي. وثمة عناصر فنية شاركت هنا وهناك، أمثال جوزف عازار وعصام رجي وملحم بركات وإيلي شويري. 
وفي المسرحَيْن حرصٌ على تقديم الفولكلور اللبناني في الكلمة واللحن والرقص. هنا وهناك تمّت الاستعانة بأنماط الزجل اللبناني من ميجانا وعتابا إلى أبو الزلف والمواويل. هنا وهناك ألحان فولكلورية شائعة جديدة التوزيع الموسيقي. هنا وهناك رقصة الدبكة جزء لا يتجزأ من العروض.

روميو لحود خلال روفة مع سلوى القطريب (أرشيف ناهي لحود)
خلال بروفة مع سلوى القطريب (أرشيف ناهي لحود)

تولّت الفرقتان بطولة المهرجانات الفنية مداورة، خصوصا في مهرجانات بعلبك الدولية ومهرجانات الأرز. كما حرص الجميع على تقديم قصيدة أو قصة من إبداع جبران خليل جبران لدى المشاركة في مهرجان الأرز. 
أخيرا، تجدر الإشارة إلى أن الفرقتين نعمتا بالإقبال الجماهيري الكبير في قاعات تغصّ بالمتفرجين. ومع ذلك كان الأخوان رحباني وروميو لحود في مواجهة صعبة تجاه الضائقة المالية. وقد سمعت السؤال من كثيرين: أين تبددت الأموال؟ وكنت أجيب دائما بأن الناس ترصد الإيرادات لكن لا أحد يحصي المصروفات. صحيح أن الإقبال يعني إيرادا جيدا، لكن المشكلة أن المصروفات كانت باهظة أيضا: من مكافآت الفنانين، المطربات والمطربين والممثلات والممثلين والراقصات والراقصين، إلى التسجيلات الصوتية والعازفين والمنشدين والكورس. إلى تكلفة الديكورات والأزياء. إلى الحصة الكبيرة التي تذهب إلى أصحاب قاعات العرض. ولو تفرّغ الأخوان رحباني أو روميو لحود إلى إنتاج الأغاني الفردية، لكانت الطرق إلى الثروة أسرع وأسهل. لكنهم خصصوا جهودهم الكبرى للمسرح الغنائي. 
تميّز المسرح الرحباني بالذائقة الشعرية المرهفة، في الحكاية الغنية بالخيال والألحان الغنية بالجمال، وفي كلمات الأغاني وقد شَدَت بها فيروز والمغنّون، وبوفرة الحوارات الغنائية المُلَحَّنة. هذه العناصر حظيت بالأولوية عند الأخوين عاصي ومنصور. جاءت هذه الاهتمامات على حساب السينوغرافيا، أو الجانب التشكيلي البصري في العروض المسرحية. 
وكانت السينوغرافيا الورقة الرابحة في يد روميو لحود. أولاها اهتماما كبيرا. فجاءت العروض غنية بعناصر الفرجة والمتعة البصرية. وبالرغم من وجود الحوارات المغنّاة، كان النصيب الأوفر في مسرحيات روميو لحود للأغاني الفردية. كانت له مساهمات في نظم الأغاني، وتعاقد في مسرحيات مختلفة مع الشعراء يونس الإبن وموريس عواد وطلال حيدر. قدّم في كل مسرحية ألحانا من تأليفه، واستضاف ملحنين آخرين أمثال وليد غلمية وزكي ناصيف ومطر محمد. واستعان بالموسيقي بوغوص جلاليان في مهمات التوزيع الموسيقي. وكانت المسرحيات جميعا من إنتاجه وإخراجه، وإن استعان في البدايات بجهود المخرج برج فازليان.

روميو لحود صباح  (أرشيف ناهي لحود)
روميو لحود مع صباح (أرشيف ناهي لحود)

عرفت روميو لحود سنة 1968 حين قمتُ بتغطية صحافية لمسرحية "القلعة" التي قدّمت في مهرجانات بعلبك. لكن الصلة الوثيقة بدأت صيف سنة 1971. كان روميو لحود مخرجا ومنتجا لمسرحية "المهرجان" التي قدمت في بعلبك. وكان وأفراد الفرقة يقيمون في فندق قادري في زحلة. وكنتُ أمضي الصيف في المدينة ذاتها. وكنت أعدّ نص مسرحية "جوّه وبرّه" ليقدمها شوشو في مسرحه بعد الصيف. كنت ألتقي شوشو كل يوم في شرفة الفندق لمراجعة المشاهد التي اكتبها ولمناقشتها. وهناك عرفت روفائيل لحود، النائب السابق في مجلس النواب اللبناني، ووالد روميو. وسمعت منه أزجالا من تأليفه، وأدركت المدرسة الأولى التي تلقّى فيها روميو فنون نظم الأغاني. 
كان روميو لحود يستعد آنذاك لتقديم عرض جديد في مهرجانات الأرز، بعد المشاركة في مهرجانات بعلبك. وكما ذكرت سابقا، قضت التقاليد بتكريم جبران خليل جبران. اختار روميو لحود إحدى قصص كتاب جبران "العواصف" وكلفني كتابة النص المسرحي بالاشتراك مع ألين لحود، فأتاح لي هذا العمل فرصة معرفة روميو لحود عن كثب.     
أدركت أسباب اهتمامه بشكل العرض، بالـ spectacle. نشأته الفنية الأولى كانت في مجال الفن التشكيلي. بعد مدرسة القديس يوسف في عينطورة، درس هندسة الديكور في بيروت ثم تعلّم سينوغرافيا الميكانيك في إيطاليا. ومن خلال مناقشة نص "العواصف" معه لمست تميّزه بذائقة مرهفة، يستخدمها لتدقيق الألحان والمناظر والأزياء وسواها. 
عَرَفَتْ صباح موهبتي في الكتابة، وكان اللقاء الثاني معها في عمل مشترك سنة 1973، في مسرحية ولدت على أنقاض مسرحية لم تكتمل بدأها روميو لحود ليقدمها في "مسرح المارتينيز" حيث عرض مسرحيات من بطولة صباح، مثل "فينيقيا 80" و"مين جوز مين". كانت صباح قد تزوجت من النائب يوسف حمود. ولم تكن العلاقات جيدة بين لحود وحمود بسبب اختلاف الأمزجة والنظرة إلى المسرح. جراء ذلك وقع الخلاف الشديد، الأمر الذي أدى إلى انسحاب روميو لحود، تاركا للمنتج الجديد يوسف حمود بعض الألحان التي كان ألّفها مثل "عللّي كاسك" التي آلت إلى ملحم بركات، و"على بالي" و "يا مية مسا" وقد أنشدهما جوزف عازار في مسرحية "الفنون الجنون" التي كتبتُ نصّها الدرامي. كانت صباح قد طلبت مني كتابة النص. وشعرت بالإحراج الشديد. فأنا على صلة طيبة بالطرفين المختلفين آنذاك. اتصلت بروميو لحود فقال لي "اعمل اللي بتريده. ما عليك". وأقنعني محمد سلمان بقبول المهمة قائلا: "إن لم تكتب أنت النص فلسوف يكتبه سواك. وانت أخذت البركة من روميو، فخذ الشهرة والمال من صباح!". 
بعد انفصال روميو عن نجمته صباح التي تعاون معها كثيرا من قبل، شاءت الظروف أن تظهر في مسيرته الفنية المطربة سلوى، ومعها بدأت صفحة جديدة في كتاب مسرح روميو لحود الغنائي. كانت بدايته الاحترافية سنة 1963 بمسرحية "الشلال" التي قُدّمت في "مهرجانات بعلبك" وفيها اكتفى بدور المنتج. القصة لألين لحود والحوارات وكلمات الأغاني ليونس الابن، والإخراج لبرج فازليان، والبطولة لصباح وجوزف عازار والصوت الجديد سمير يزبك ولأول مرة إيلي شويري. وشارك في "الشلال" صوتان جميلان، ومن بعد اعتزلا الغناء، هما سليم الجردي وسمير ياغي، وكان روميو يرغب في التعاون معهما مجددا. ومن طرائف "الشلال" أن سليم الجردي أنشد أغنية "مَلْوَ الدني لبنان" من كلمات يونس الابن، وهي تكملة لـ "لبنان يا قطعة سما" التي أنشدها وديع الصافي. 
بعدها أنتج روميو لحود في "مسرح فينيسيا" مسرحيات "موال" و"ميجانا" و"عتابا"، مساهما في تنشيط حضور الجمهور لهذا اللون المسرحي، وداعما مواهب فنية لمعت في فضاء الغناء لاحقا، مثل سمير يزبك وعصام رجي، ومُعطيًا الفرصة لجوزف عازار ليؤدي أدوار البطولة (كان قد شارك من قبل في "جسر القمر" للأخوين رحباني). وبرغم الإقبال الكبير عانى روميو لحود الضائقة المالية الأمر الذي أدّى إلى إغلاق مسرح فينيسيا. 
قُيّض له بعد ذلك أن ينشط تباعا في مهرجانات بعلبك والأرز. وبعد نجاح مسرح المارتينيز ثم النكسة التي جعلته ينسحب منه، أسس مسرحه الغنائي اليومي في قاعة "الإليزيه" بحي الأشرفية في بيروت، مفتتحا إياه سنة 1974 بمسرحية "سنكف سنكف" من بطولة سلوى ومشاركة ملكة الجمال جورجينا رزق. وسيبقى مسرح الإليزيه لنحو اثنتي عشرة سنة مسرح العروض الناجحة من إنتاج وإخراج روميو لحود، وبطولة النجمة الجديدة سلوى. 
عرفت المسرحية التالية "الأميرة زمرد" نجاحا كبيرا، وفيها تقاسم ملحم بركات البطولة مع سلوى. ثم مسرحية "بنت الجبل" من بطولة سلوى وأنطوان كرباج. وتوالت العروض الناجحة وكلها من بطولة سلوى، وبعضها شهد عودة النجوم إلى مسرح روميو لحود مثل مسرحية "أوكسجين" التي شارك فيها إيلي شويري. وبعد منتصف الستينيات آثر روميو لحود الراحة. وعاد إلى جمهوره من جديد بمسرحية "طريق الشمس" لسلوى، وأعاد تقديم "بنت الجبل" وفيها أدّت ألين لحود دور والدتها سلوى.  
كتب روميو لحود أغنيات لحّنها غيره. ونظم ولحّن مجموعة من الأغاني الرائعة لأجمل الأصوات: صباح التي أنشدت "بكره بتشرق شمس العيد" و"يا مسافر وقّف ع الدرب". وسمير يزبك: "دقي دقي يا ربابة" و"ويلي من حبّهم ويلي". وعصام رجي: "قديش قضينا سوا" و"تغيّرتي كتير علينا". وطوني حنا "طال السهر وليالي العيد" و"من شرّد لي الغزاله". ولسلوى باقة من الأغنيات تتصدرها رائعة "خذني معك" و"قالوا لي العيد بعيوني" و"شو في خلف البحر" و"اسمك بقلبي" و"مش كل السنة بتتلج الدني" (وهذه قدمت من قبل بأصوات الكورس في "القلعة").  
جرّب روميو لحود حظّه في السينما. أخرج سنة 1972 فيلم "ملكة الحب" وهو من نوع أفلام الخيال العلمي، من بطولة حسين فهمي وناهد يسري وعادل أدهم، ولم يحقق نجاحا. وكان لفرقته المسرحية حضور في قاعات عالمية ومنها "مسرح الفنون الجميلة الملكي" في بروكسل، و"مسرح الأولميبيا" الشهير في باريس. ونال وسام "الأرز الوطني برتبة ضابط" سنة 1995. وفي سنة 2017 كرّمته مهرجانات بعلبك بتخصيص "الليالي اللبنانية" لمختارات من أعماله أدّتها مجموعة من الأصوات الجديدة. 
عاش روميو لحود 92 عاما حافلة بالإبداع، وكان مولده في مطلع سنة 1931، وغادر دنيانا خريف سنة 2022، تاركا النجاحات في متناول جمهور الغناء.     
  

المساهمون