دفاتر فارس يواكيم: أمينة رزق أم الجميع وآنسة السينما والمسرح

10 يوليو 2023
عملت أمينة رزق بإدارة حسن الإمام في كثير من الأفلام (فرانس برس)
+ الخط -

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" كلّ يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم.

في أفلامها لعبت دور أم السواد الأعظم من نجوم السينما المصرية. كانت أم فاتن حمامة وفريد شوقي وعمر الشريف وهند رستم ومحمود عبد العزيز وشادية وسواهم. بدأت تؤدي هذا الدور في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين. في فيلم "البؤساء" الذي أخرجه كمال سليم سنة 1943 جسّدت دور عاملة في مصنع، وأم لابنة غير شرعية، تآمرت عليها زميلاتها فطُردت، وعملت راقصة، وأصيبت بالسل، وباعت ما تملك، حتى جسدها، لكي تنفق على تربية ابنتها. دور لا يُشبه نمط الأم الطيبة الوادعة الذي كان سمة الكثير من أدوارها لاحقاً. وفي الفترة نفسها قامت ببطولة فيلم "الأم" الذي أخرجه عمر جميعي، وفيه كانت الأم التي مات زوجها، وبعد زواج أولادها عاشت وحيدة.

التقيتها أول مرة في بيروت أواخر سنة 1967. كنتُ قد أرسلت خطاباً إلى يوسف وهبي في القاهرة، أعرض عليه مشروع تقديم مسرحياته مع فرقته في العاصمة اللبنانية. ويبدو أنني نسيت أن أكتب عنواني في بيروت. فأرسل يوسف وهبي ردّه (إلى ابننا فارس) في خطاب إلى أمينة رزق، وكانت آنذاك متواجدة في بيروت، وفي الخطاب رجاء إيصال التحيات الحارة إلى المنتج السينمائي روفائيل جبور الذي اتصل بي وأخبرني قصة الرسالة، وأعطاني اسم الفندق الكائن في شارع الحمرا، وقال: "اتصِل بأمينة رزق، وقد أخبرتها أنك من أقاربي". وبالفعل، استقبلتني بلطف وأبلغتها أنني أشكر هذه المصادفة السعيدة، وأنني معجب جداً بأدوارها خصوصا في "دعاء الكروان" (إخراج هنري بركات) و"بداية ونهاية" (إخراج صلاح أبو سيف).

كان اللقاء الأول فرصة لي للحديث مع هذه الممثلة القديرة عن تجربتها الغنية في المسرح والسينما. بدأت بسيرة روفائيل جبور، قالت: "عرفته سنة 1935. كان شاباً صغيراً، التحق بفرقة رمسيس وعمل معنا ملقّناً ومساعداً، وفي السنة نفسها اشتغل مساعد المخرج يوسف وهبي في فيلم الدفاع. وحين أنتجتُ فيلم ضحايا المدينة سنة 1946 أسندتُ إليه إدارة الإنتاج. ومن بعد، أصبح من أبرز مديري الإنتاج في السينما المصرية، ثم منتجاً وموزعاً للأفلام". قلت لها "وهو أخبرني عنك الكثير. ذكر لي أنك في فرقة رمسيس كنت أول من يصل إلى الكواليس قبل العرض بنحو ساعتين، وأنك كنت تعملين الماكياج لنفسك. وأخبرني أنك لعبت دور الأم وأنت في سن الشباب". ضحكت وعلّقت بقولها: "أيوه... كان عمري 33 سنة. كبّروني قبل الأوان".

لم ينجز مشروع العروض المسرحية مع فرقة رمسيس، لأن مطالب يوسف وهبي كانت كثيرة ولم أكن أملك التمويل الكافي، ولم أجد شريكاً. بعدها أقام يوسف وهبي في لبنان والتقيته أثناء عملي في فيلم "الحب الكبير". وفي فبراير/ شباط 1970 تمكّن من تقديم عروضه المسرحية في بيروت، وكانت منتخبات من مسرحياته القديمة مع فرقة رمسيس. في هذه العروض البيروتية شاركت أمينة رزق وعماد حمدي أيضاً. وخلال تلك الفترة كانت لي لقاءات أخرى معها، وأحاديث تستعيد الذكريات. كانت عندما تأتي على سيرة الممثل العتيد تلفظ اسمه مقرونا بلقبه الرسمي: يوسف بك، في غيابه كما في حضوره. وكانت مثله، وأبناء ذلك الجيل، تسمّي المسرحية "رواية". وروت لي: "كنا نعرض في فرقة رمسيس كل أسبوع رواية، ثم نقدم رواية أخرى، وفي آخر الموسم نعيد عرض الروايات تباعاً". وعددت أسماء المسرحيات، وتوقفتُ عند "راسبوتين" التي اشتهر يوسف وهبي فيها بأداء دور الراهب الروسي المحتال. شاركت أمينة رزق في هذه المسرحية في حقبتين، الأولى في العشرينيات. قالت: "من أوائل أدواري. لعبت فيها دور فتى! دور أليكسي المريض ابن القيصر، وكنت أمشي على المسرح بدعم عكازتين. ولما قدّمناها سنة 1960 وكانت بإخراج حمدي غيث، لم ألعب دور الفتى طبعاً. جسدت شخصية وصيفة القيصرة".

كانت مسرحية "تحت العلَم" أول مشاركة لأمينة رزق في المسرح. لم تمثّل فيها، لكن قدّمت مع خالتها أمينة محمد لوحة راقصة. كانت في الرابعة عشرة من عمرها (من مواليد 1910 في طنطا). بعدها أسند إليها يوسف وهبي أدواراً صغيرة. وابتسم لها الحظ في السنة الثانية. كانت الفرقة تستعدّ لتمثيل مسرحية "الذبائح"، وهي ميلودراما عنيفة كتبها اللبناني المتمصر أنطون يزبك. ووقع الخلاف بين يوسف وهبي وبطلة المسرحية روز اليوسف في إثره انسحبت البطلة، وعلى عجل أُسند الدور إلى أمينة رزق. "كنت خايفة موت. روز اليوسف كانت أميرة المسرح المصري، لقبها سارة برنار. وكنت أنا معجبة للغاية بأدائها. بذلتُ جهداً كبيراً والحمد لله، نجحت وبكيت عندما صفق لي الجمهور. كانت الرواية عنيفة في أحداثها، وكان الناس يخرجون من القاعة بعد العرض وهم يجفّفون عيونهم ويعصرون مناديلهم"، قالت أمينة رزق.

تدرّجت أمينة رزق بسرعة وهي تؤدي أدواراً رئيسية في المسرحيات، إلى أن صارت تتقاسم البطولة النسائية مع فردوس حسن وزينب صدقي، وبعد مغادرتهما أصبحت أمينة رزق بطلة فرقة رمسيس، وظلت بهذه الصفة إلى أن توقفت الفرقة في منتصف الأربعينيات. وفي 1958 انضمت إلى فرقة المسرح القومي. وتألقت في المسرحيات التي شاركت فيها. كان أداؤها مختلفاً عمّا قبل. المسرحيات من الأدب العالمي ومن نصوص كبار الكتاب المصريين. والعمل بإدارة مخرجين يواكبون الحداثة في المسرح، وجلّهم درس في باريس، كفتوح نشاطي ونبيل الألفي وحمدي غيث وجلال الشرقاوي. وظلّت أمينة رزق مرتبطة بعالم المسرح، وكان آخر ظهور لها على الخشبة في مسرحية "الليلة الثانية بعد الألف" التي أخرجها عصام السيد، وقُدّمَت في مركز الهناجر بدار الأوبرا سنة 2002، أي قبل وفاتها بسنة.

وكما تدرّجت من الأدوار الثانوية إلى البطولة، تطوّر أداؤها مع تنامي خبرتها. كان من الطبيعي أن يتّسم أداؤها في السنوات الأولى بالمبالغة في الصوت وفي تعابير الوجه. كان ذلك متوافقاً مع الميلودرامات التي قدمها يوسف وهبي في مسرحه. وهي روايات تثير العواطف وتحرّض على البكاء. وكان الممثل الذي يَبكي ويُبكي يعتبر من الأبطال. وقد رافقت أمينة رزق المسرح أيام كان فن التمثيل منتمياً إلى "التشخيص".

وفي كتاب "فن الممثل العربي" للمخرج المخضرم زكي طليمات، وصف أداء الممثلين آنذاك بالأداء الباكي، واعتبر أمينة رزق نموذجاً لهذا اللون، وأضاف يقول: "على الرغم من أنها ممثلة مجيدة لها نصيب موفور من المواهب". لكنه رأى أنها "برصيد الخبرات التي اجتنتها، تجاوزت المرحلة التي كان الممثلون فيها يلعبون بالصوت الحزين لكسب عطف الجمهور". واستطرد يشرح قبول الجمهور لها، ويردّ ذلك إلى "صدق التعبير، وقوة الشخصية، والحذق في أسلوب الأداء، مع الحرص على أن تغيّر دائماً من طبقات الصوت ومن إيقاعات الكلام". أما روز اليوسف، فكتبت في مذكراتها "كانت أمينة رزق في أول عهدها بفرقة رمسيس تلميذة رائعة. لا تترك الكواليس، محدّقة في المسرح، تكاد تلتهم التمثيل والممثلين التهاماً، مختزنة في أعصابها تجارب التمثيل وطرق الأداء والتعبير. وكانت تتفوق في أدوار الفتاة الرقيقة، المشبوبة العاطفة، السريعة التأثر".

طبعاً، لم أشهد عروض مسرحية "راسبوتين" التي قدّمها يوسف وهبي في العشرينيات، لكنني تمكنت من مشاهدة عرض المسرحية نفسها في الستينيات. بينما ظلّ يوسف وهبي محافظاً على النمط القديم في الأداء مبالغاً في تعابير وجهه وفي الإلقاء، مُحَشرِجًا الصوت في حلقه، تميّزت أمينة رزق بأنها واكبت الأداء العصري الخالي من المبالغة المفتعلة.

وكما في المسرح كذلك في السينما. شاركت أمينة رزق في بدايات هذه الفنون في مصر. أيام السينما الصامتة، قامت سنة 1928 بدور في فيلم "سعاد الغجرية"، ثم مثّلت دور البطولة في أول فيلم مصري ناطق، وهو من بطولة يوسف وهبي وإخراج محمد كريم، وهو "أولاد الذوات" الذي صوّر بين القاهرة وباريس، وعرض سنة 1932 فاستُقبِل بحفاوة بالغة. وفي السينما أيضاً، لعبت المصادفة دورا في إسناد البطولة إلى أمينة رزق. أخبرتني بعض التفاصيل، قالت: "أنا ما كنت مرشّحة للدور من الأساس. أعطوا الدور إلى بهيجة حافظ، باعتبارها نجمة سينمائية. وحدث أنها اختلفت مع المخرج في اليوم الثاني من التصوير، وتشاجرت معه، وقفلت عائدة إلى القاهرة. وإزاء ذلك الفراغ، أبرق لي يوسف وهبي أن أحضر إلى باريس على جناح السرعة. أسندوا إليّ دورها، وأنا كنت أمثله في المسرح. والفيلم عن رواية قدمتها فرقة رمسيس".

تلك كانت بدايتها في السينما، واستمرت تمثّل أدواراً في الأفلام حتى سنة 1997. وكان فيلم "المعتقل" آخر أفلامها، وهو عن المناضلين الفلسطينيين في غزة. في فيلم "الدفاع"، ثاني أفلامها، وهو من بطولة يوسف وهبي وإخراجه، قامت بدور راقصة تقع في حب الباشا، وترضى أن تكون خليلته. وعندما اكتشفت خيانته لها، حاولت أن تطلق النار عليه، فسبقها وقتلها. ومع يوسف وهبي مثّلت بعض الأفلام منها "كرسي الاعتراف" و"أولاد الفقراء". ومع إبراهيم لاما أدّت دور ليلى في فيلم "قيس وليلى". وبعد نجاحها في دور الأم في "البؤساء" مال عدد من المخرجين إلى تأطيرها في دور الأم الطيّبة. لكنها مع ذلك نجحت في تمثيل أدوار أمّ ذات مشاعر مختلفة. هي في فيلم "المجرم" (صلاح أبو سيف) صاحبة حمّام شعبي وأم فتى أبله. وهي في فيلم "التلميذة" (حسن الإمام) الأم التي تعمل خادمة لتربّي ابنتها. وفي فيلم آخر لحسن الإمام "بائعة الخبز" هي الأرملة التي تعمل في مصنع لتربية ابنتها وابنها. يشب حريق في المصنع وتُتهم زوراً بأنها الفاعلة. تصاب الأرملة بالجنون، وتبقى في مستشفى الأمراض العصبية عشر سنوات. وحين استعادت ذاكرتها بدأت رحلة البحث عن ولديها.

عملت أمينة رزق بإدارة حسن الإمام في كثير من الأفلام. لونه الميلودرامي يتناسب معها، وهي تعرفه منذ بداياته الفنية، ممثلاً صغيراً في فرقة رمسيس. فضلاً عن الأفلام المذكورة، شاركت أيضاً في فيلم "قلوب العذارى" و"شفيقة القبطية" و"بمبة كشر" وكلها من إخراج حسن الإمام. ولعبت أدواراً مميّزة مع مخرجين من الرعيل الأول، مثل: أنور وجدي (أربع بنات وضابط) وعز الدين ذو الفقار (نهر الحب) وعاطف سالم (المماليك). كما شاركت في أفلام من إخراج الجيل التالي، مثل "أريد حلاً" (سعيد مرزوق) و"الكيت كات" (داود عبد السيد) و"المولد" (سمير سيف) و"استاكوزا" (إيناس الدغيدي).

وعلى الرغم من اشتهارها بأداء الأدوار الجدّية، فلا أنسى دورا كوميديّاً أدته ببراعة في مسرحية "إنها حقا عائلة محترمة" مع فؤاد المهندس وشويكار. كان آخر لقاء لي معها في القاهرة سنة 1997. كان التلفزيون المصري يعرض حلقات من مسلسل "ضد التيار" من بطولة سميرة أحمد ومحمود ياسين، وأمينة رزق في دور "دادة أمينة". وهي أمضت السنوات الأخيرة تشارك في المسلسلات التلفزيونية، الواحد تلو الآخر، وآخرها "أدهم وزينات والبنات التلات" في 2003، سنة وفاتها عن 93 عاماً، أمضت منها 79 عاما في التمثيل. لم تتزوج طيلة حياتها. أحبت يوسف وهبي حبّاً عارماً لم يثمر زواجاً.

المساهمون