خوان دي باريغا... صورة أكثر دقة لهذه التجربة

30 يونيو 2023
لوحة "دعوة القديس ماثيو" لخوان دي باريغا (روبرت نيكلسبرغ/Getty)
+ الخط -

 

يبرز اسم الفنان الإسباني دييغو فيلاسكيز (1599 - 1660)، كواحد من الرسامين المهمّين خلال القرن السابع عشر، أو ما يسمونه العصر الذهبي للفن في إسبانيا. أكبر ميزة يمكن أن نتوقف أمامها في أعمال فيلاسكيز، تتمثل بتوظيفه البارع للإضاءة، ففي كثير من أعمال هذا الفنان، تنبثق الشخصيات من المناطق القاتمة في تمازج ناعم ومتدرج.

يمكننا تبين ذلك في العديد من أعماله البارزة، كلوحته الأشهر مثلاً "فينوس أمام المرآة"، وهي واحدة من أهم مقتنيات المتحف الوطني في لندن. بين لوحات البورتريه التي تتجسد فيها هذه الميزة عند فيلاسكيز، أيضاً، تبرز لوحته الشهيرة التي تمثل رجلاً داكن البشرة في ملابس النبلاء، مع وضعية تنطوي على شيء من التفاخر. اللوحة الأخيرة أحد مقتنيات متحف متروبوليتان في نيويورك، أما هذا الرجل ذو البشرة الداكنة الذي يظهر فيها، فهو خوان دي باريغا (1610 - 1670).

لم يكن باريغا من طبقة النبلاء، كما قد يبدو من هيئته، لكنه في حقيقة الأمر كان خادماً لفيلاسكيز، أو بمعنى أصح، عبداً له ولأسرته. غير أن باريغا لم يكن مجرد خادم أو مستعبد لفيلاسكيز، بل كان تلميذاً نجيباً له. عمل باريغا مساعداً لفيلاسكيز طوال العقدين اللذين قضاهما في العبودية. وخلال هذه الفترة، استطاع الإلمام بالمهارة الفنية الكافية التي جعلته لاحقاً إحدى الشخصيات المرموقة في مجتمع الفن الإسباني. أُعتق باريغا بعد رسم هذه اللوحة بأقل من عام، ليشق طريقه بعدها بنجاح في الوسط الفني الإسباني والأوروبي، وكأن فيلاسكيز قد تنبأ بذلك حين رسم له هذا البورتريه بهيئته الأرستقراطية.

خوان دي باريغا بريشة فيلاسكيز (Getty)

من أجل تسليط الضوء على تجربة خوان دي باريغا، يستضيف متحف متروبوليتان في نيويورك حتى 15 من يوليو/ تموز المقبل، معرضاً يضم مجموعة متنوعة من أعمال خوان دي باريغا. الأعمال التي يضمها المعرض جُلبَت من مؤسسات ومتاحف مختلفة حول العالم، وهي تقدم صورة أكثر دقة لهذه التجربة الملهمة التي طالما همشت في تاريخ الفن. هذا التهميش الذي تعرض له خوان دي باريغا يبدو مثيراً للدهشة والتساؤل في آن واحد، فهو فنان لا يفتقر أبداً إلى المهارة، ولا يقلّ بأي حال من الأحوال عن معاصريه من الأسماء الكبيرة في عالم الفن الأوروبي. فهل كان هذا التهميش بسبب انتمائه العرقي؟ أو بطريقة أخرى، هل كان باريغا سيتعرض لهذا التهميش والتجاهل إذا كان ذا سحنة أوروبية؟

تساؤلات كثيرة يشير إليها هذا العرض الكبير لأعمال باريغا في متروبوليتان، الذي يأتي في سياق إعادة اكتشاف جوانب التاريخ المنسي للفن الغربي، كما يقول منظموه.

حتى اليوم، لا تعرف على وجه الدقة هوية باريغا أو خلفيته، فكل ما يقال في هذا الصدد مجرد تكهنات لا أكثر، فلون بشرته وملامحه لا تشي بأصول أفريقية خالصة، ويرى بعضهم أنه كان نتاج زواج مختلط. يذهب آخرون كذلك إلى أنه واحد من أبناء المورسكيين الذين أرغموا على العبودية والتخلي عن دينهم بعد سقوط الحكم العربي في الأندلس. على أي حال، سواء كان باريغا أفريقياً أو مورسكياً، فهو إسباني بحكم المولد والنشأة والثقافة، ولم يقف انتماؤه العرقي عقبة أمام تحصيله الفني، فقد امتلك الأدوات والمقدرة التي مكنته من التميز بين فناني القرن السابع عشر في إسبانيا.

اللوحة الرئيسية للمعرض هي لوحة دييغو فيلاسكيز التي رسمها لباريغا. يشير هذا الاختيار إلى التأثير الفني لفيلاسكيز على باريغا، غير أن المعرض يتجاوز هذه الصورة الشهيرة، ويتعمق في مجموعة أعمال باريغا الخاصة، فيوفر إطلالة غير مسبوقة على رؤية باريغا الفنية وبراعته. كمعلمه، يتميز أسلوب خوان دي باريغا بتوظيفه للضوء والظل، وتُصور أعماله مواضيع مختلفة، كالصور الشخصية والمشاهد الطبيعية والموضوعات الدينية. في هذه اللوحات، يتبدى اهتمام الفنان الدقيق بالتفاصيل والاستخدام المتقن للألوان، في سرد بصري آسر.

يمثل المعرض فرصة فريدة لاستكشاف الإنجازات الفنية لهذا الرسام الذي لم تكتشف أبعاد تجربته بعد. لا يتعلق الأمر هنا بالتجربة الفنية فحسب، فرحلة باريغا الخاصة من العبودية إلى أن أصبح فناناً ذائع الصيت في عصره، تبدو ملهمة لكثيرين، ومناوئة للرؤى العنصرية.

يدفع المعرض باتجاه دراسة نقدية معمقة للسياق التاريخي الذي شكل حياة هذا الفنان وتجربته الفنية، في سبيل تبني سرد أكثر شمولاً وإنصافاً. يحفز معرض باريغا النقاشات الدائرة اليوم حول التمثيل والمساواة في عالم الفن، ويقدم قراءة مختلفة للتاريخ الفني بتسليطه الضوء على واحدة من التجارب المهمة التي جرى تجاهلها.

المساهمون