"خاتم الرجل الميت": فضحٌ سينمائيٌّ مُفعمٌ باشتغالات جمالية

07 يونيو 2024
"خاتم الرجل الميت": تأكيد آنيّة الحدث في مكسيك اليوم (الملف الصحافي)
+ الخط -
اظهر الملخص
- "خاتم الرجل الميت" يستكشف ظاهرة الاختفاء القسري في المكسيك من خلال قصة داليا وبحثها المؤلم عن زوجها المفقود، معكساً تأثير الخوف والقلق على حياة الشخصيات.
- يتميز العمل بأسلوب سينمائي يذكر بألفرد هيتشكوك، مستخدماً الخوف والتصوير بالأبيض والأسود لخلق أجواء من الغموض والتوتر، مما يجعل المشاهد يعيش لحظات القلق مع الشخصيات.
- ينتقد الفيلم المجتمع والسياسة في المكسيك، مبرزاً التلاعب بمصائر الأفراد لأسباب سياسية أو اجتماعية، ويُظهر البحث عن العدالة والحقيقة في مواجهة الفساد والظلم، مضيفاً إلى السينما المكسيكية عملاً نقدياً وعميقاً.

بوجلٍ، يتوقّف أليخاندرو خيربير بيثِتشي (1977) أمام ظاهرة اختفاء مكسيكيين فجأة من الحياة، كأنّ قوّة غامضة تأخذهم إلى المجهول، من دون أنْ تترك وراءها أثراً. فكرة الاختفاء القسري من دون أثر تخيف المكسيكيّ، وتجعله عرضة لهاجس وتوجّس دائمَين من أنّ شيئاً مُشابهاً ربما يتعرّض له هو أيضاً، أو أحد أفراد عائلته. عندها، تنقلب حياته رأساً على عقب، ويدخل في دوامة بحثٍ عن اللامُجدي.

هذا يأتي في سياق المُنجز الروائي لخيربير بيثِتشي، "خاتم الرجل الميت" (2024)، والعنوان ترجمة مقاربة للأصل الإسباني Arillo de hombre muerto، المكتوب بلغة سينمائية تتدرّج بقوّة بلاغتها من الأبسط إلى الأعقد. تقلّبات حياة داليا (أداء بارع لأدريانا باتز)، بعد اختفاء زوجها، يتأسّس عليها هرم مجتمعي يؤشّر على خراب حاصل فيه، لن يتكشّف كلّه أمام الناس، إلاّ لحظة مواجهة أحدهم ما واجهته داليا. عندها، ربما يُعيد التفكير بمسار حياته وبحثه في ثناياها عمّا كان سبباً في التراجيديّ الحاصل فيها.

يقارب الاشتغال الإخراجي لخيربير بيثِتشي الأسلوب السينمائي لألفرد هيتشكوك، بجعل الخوف ثابتاً في المشهد العام للمكان الذي يقترحه موقعاً لأحداث غامضة، وانتظار ما سيحصل فيها طويلاً يولّد ترقّباً وقلقاً عند المُتفرّج. من لحظة خروج داليا من كابينة قطار الأنفاق الذي تقوده، بعد انتهاء فترة عملها المسائي، وصولاً إلى لحظة دخولها منزلها، يتغلغل قلق في دواخلها، وتوجّس من احتمال تعرّضها لسوء. المسافة القصيرة، التي تقطعها من موقف السيارات إلى منزلها، تكفي لعرض حالة الخوف الداخلي الذي يسكنها.

الأبيض والأسود، المُصوَّر بهما الفيلم، يزيدان من الإحساس بعتمة المشهد العام المحيط بها. لهذا الغرض، يُوَظَّف اللون، وعلى غير العادة، لا يراد به هنا الإيحاء بماضٍ أو أحداث تُستعاد وتُربط باللحظة الراهنة. بالعكس، يبغي النص (السيناريو للمخرج) تأكيد آنيّة الحدث، وتشابكه مع واقع تعيشه المكسيك اليوم.

يبدو الحدث في السياق عرضياً، أولاً. زوج داليا، مهندس ميكانيكي يعمل معها في المحطة نفسها، يتأخّر عن موعد وصوله إلى البيت، في الوقت المعتاد يومياً. والدته وأولاده قلقون عليه. مع مرور الوقت، يسود إحساس فيهم بأنّ شيئاً ما حدث له. قلق الزوجة عليه يخالطه شعور بالذنب، لأنّ لها علاقة بشخصٍ آخر، والقلق يثير فيها أسئلة عن معنى ارتباطها به، وعن صعوبة فهم عائلتها لحزنها على غيابه، وبحثها الجادّ عنه.

 

 

من الملتَبِس في المشهد العائلي، تذهب الحكاية إلى الحيّز الاجتماعي الأكبر المحيط بها، وتشابكاته المعقّدة مع السياسة والمصالح الطبقية. يُكَني النص غياب الزوج بتغييب متعمّد لمعارضي الفساد السياسي السائد. مع بقية النقابيين، وزوجته، يُصوَّت لاقتراح يُستبْدَل به مدير المحطة برجل نزيه. الغضب من موقف المهندس ربما كان سبب مقتله. كلّ الدلائل تشير إلى أنّه لم يخرج يوم اختفائه من محطة المترو التي يعمل فيها.

غضب المدير وانتقام الإدارة منها كانا أيضاً سبب إجبارها على العمل في ورديّات مسائية، والجميع يعرفون جيداً ما يعنيه خروجها ليلاً في مدينة تنتشر فيها الجريمة، ويغيب الناس عن الوجود، كأنّهم كائنات هلامية تتبخّر بلمح البصر.

يتوسّع المسار الدرامي لفيلمٍ مذهل في قوة كتابته، وفي أسلوب تسريبه حالة رعبٍ يعيشها المكسيكي تصاعدياً، بجعل المُغيّبين قادرين على تحريك جانبٍ من المشهد الدراماتيكي، رغم عدم ظهورهم الصريح فيه. هذا يأتي عبر رحلة بحثٍ مضنيةٍ عنهم، وما يلازمها من اكتشافٍ لواقع سياسي مخيف، يغيب فيه الناس جرّاء مواقفهم المعارضة لنظام جائر.

لم تتصوّر الزوجة وعشيقها كارلوس (نوي هيرنانديز) أنّ بحثهما عن الزوج الغائب سيوصلهما إلى مشارح مليئة بجثث مجهولة الهوية. لم يخطر على بالهما أنّهما سيتعرّفان، في رحلة بحثهما العدمية والمشحونة بأوجاع وأحزان، إلى عددٍ كبير من الناس، يبحثون مثلهم عن أحبّة، يأملون بعد يأسهم من احتمال عودتهم أنْ يعثروا على جثامينهم، على الأقلّ، لدفنها كما يليق بآدميّتهم.

تتداخل مسارات البحث عن المُغيبين بمواقف مضطربة، تفضح أنانيات، وتكشف جهات تستفيد من غيابهم تجارياً. لكنْ، في النهاية، تفرض الحياة قوانينها. يتقبّل الخاسرون واقعهم، وُيدركون ـ بعد مراجعة خيباتهم في استعادة الغائبين عنهم ـ أنّ عليهم إكمال حياتهم. هكذا تفرض الحاجة إلى التصالح مع الحياة على داليا هَجْر عشيقها، واستعادة عائلتها، بعد فترة خصامٍ ومَلامة.

أما المُغيّبون، فلا أمل بعودتهم ثانية إلى الحياة. حتى قَتَلتهم لن يُحاسَبوا، طالما أنّهم محميّون بساسة نظامٍ فاسد، يسعى مُنجز أليخاندرو خيربير بيثِتشي إلى فضحه بأسلوب سينمائي مُفعم باشتغالات جمالية، تضعه بين أفلامٍ مكسيكية رائعة، تعمّقت في قراءة واقعها، وقدّمت في السنوات الأخيرة تحفاً سينمائية، تتقارب في روحها وبحثها معه، كرائعة ألفونسو كوارون "روما" (2018).

المساهمون