حجبت كورونا الشفاه وراء الكمامات التي امتصّت بعضاً من أمواجنا الصوتية، فنرفعها ونكرّر ما نقول لكي نُسمَع بوضوح أكثر.
كيف نرى اليوم شفاه بعضنا، وأنصاف وجوهنا تخفيها الكمامات؟ الشفاه لا تتكلم فقط أو تقبّل أو تقيس حرارة الطعام، هي تكمّل رسم وجوهنا بجماليتها، وتتخذ لونها من مادة الميلانين الموجودة فيها، وعادة ما تكون منخفضة.
تفيض الشفاه بالحب والدفء ومتعة التحسّس، وتساعدنا في التعبير عن مشاعرنا وتفاعلاتنا. وهي أساسية للنطق وإصدار الأصوات حيث تتكوّر وتنفرد آخذة شكل الأحرف الناطقة بها.
أنقذت كارلا (إيمانويل ديفوس) بول (فينسينت كاسيل) في فيلم "اقرأ شفتيّ" Read My Lips، إنتاج 2001، مستخدمة موهبتها التي عوّضتها عن صممها.
وجدت وسيلة اتصالها بالعالم عبر قراءة الشفتين. كانت تقرأ شفاه زملائها في العمل، فتعلم ألاعيبهم وما يتهامسون عنها و"تقرأها" جيداً. لكن الفيلم يظهر قدرتها بنحو سهل وتلقائي. الصعوبة الوحيدة التي واجهتها كانت في بُعد المسافة، بيد أن المنظار ساعدها في تخطّيها.
كتبت رايتشيل كولب مقالاً في Stanford Magazine تروي صعوبة أن تقرأ شفتَيْ أحدهم. رايتشيل التي تكمل دراسة الدكتوراه، صوّرت مع "ناشونال جيوغرافيك" فيلما قصيراً وضّحت فيه كيف أن لكل إنسان طريقته الخاصة في لفظ الكلمات وتهجئة الحروف.
بعضنا لديه لكنة معينة، وآخر يتكلم بسرعة وأخرى تغطي فمها عندما تتكلم! فنحن لا نذيع الأخبار عندما نتحدث في حياتنا اليومية أحاديث عادية، والشفاه ليست كتاباً تقرأه حيث تكون الكلمات مصفوفة بأناقة ووضوح وتستطيع إعادة قراءتها إن أردت.
اعتادت كولب على بعض أصدقائها المقربين لتفهم ما يقولون من دون لغة الصم، لكن ذلك لا يساعدها في الأماكن العامة، كالجامعة، أو القهوة أو في الحفلات الصاخبة.
أصبح المدخنون يتفاجأون بالكمامة كلما همّوا بإشعال سجائرهم. وكذا تناول الطعام لم يعد عفوياً بوجودها. بعضهم صنع فوهة في الكمامة ليسحب من سيجارته، وغيرهم اقتطعوا خط الشفاه كاملاً لتناول طعامهم من دون الحاجة لإزالتها. ومنهم من ذهب إلى خيار السحاب، يفتحه ويغلقه كيفما شاء.
Yes yes yes. 😷 🍾 pic.twitter.com/UNT56Zgs7w
— judy murray (@JudyMurray) October 16, 2020
نيكول مِلكي، اختصاصية علاج نطقي، ترى أن الشفاه من أهم الأعضاء للتواصل. فإلى جانب دورَي النطق والسمع في عملية التواصل، يقوم الشخص المستمع بقراءة شفتي المتكلّم. لذلك عندما يُغَطَّى الفم بالكمامة يؤثر سلباً بعملية التواصل.
وتضيف مِلكي لـ"العربي الجديد" بناءً على خبرتها لأكثر من عشر سنوات في عالم النطق والتواصل، أن هناك أشخاصاً يجدون صعوبة في المحادثة مع أحد يكمّم شفتيه.
"صحيح أن الشفاه والفكين جزء من تعابير الوجه التي تكمّل عملية التواصل وتساعد في معرفة حالة الشخص، لكن يستطيع المرء أن يعرفها من خلال الحواجب أو العينين، رغم أن ذلك ممكن أن يؤخر ردة فعله" تشرح مِلكي، مضيفة أن أكثر الفئات العمرية "تضرراً" من وضع الكمامة هم الكبار في السن، الذين خفَّ سمعهم مع العمر.
تعمد ملكي إلى إزالة الكمامة في جلساتها العلاجية معهم والإبقاء على مسافة المترين التي تمثل "البعد الاجتماعي". والكمامة تضعف مستوى الصوت 20% كما تخفف هويته.
بالإضافة إلى الكبار في العمر، يواجه الناس الذين يعانون مشاكل سمعية أو الصم المشكلة ذاتها. وهنا تشير ملكي إلى لجوء بعض الدول إلى الكمامات التي تظهر الشفاه، ما يساعد هؤلاء على رؤيتها وقراءتها.
ذكر موقع Brooklyn Paper أن سيدة بلورت فكرة "الكمامة الشفافة" بعد أن عانى أحد أقربائها الصّم من عدم قدرته على التواصل مع محيطه بسبب تغطية الشفتين، ما منعه من قراءتها، فخاطت "الكمامات الشفافة" عند الشفتين، وأعطته كمية تكفيه له ولرفاقه ولمحيطه ليعيد تواصله معهم.
#Coronavirus #Covid19 #Germany
— AFP Photo (@AFPphoto) May 12, 2020
Company offers special masks for the deaf.
📷 @inafassb #AFP pic.twitter.com/31IoWq28Yu
كذلك في إندونيسيا صممت خياطة صمّاء "كمامة شفافة" خاصة بها لمواجهتها العائق ذاته، كما ذكر موقع South China Morning Post.
اليوم، يطالب الصم في بلجيكا باعتماد "الكمامة الشفافة"، وذلك لاحترام حقوق الصم والحرص على تمتعهم بعملية تواصل سهلة وسليمة ومتكاملة، خصوصاً أن بلجيكا تفرض ارتداءها في وسائل التنقل العامة. إذ تعوق الكمامات العادية عملية التواصل لديهم وتسبب ضغطاً نفسياً وتوتراً، وهما أمران لا يساعدان في ظل الجائحة.
وبنظر مِلكي، فإن الحل الأمثل، الذي تعتمده هي شخصياً أيضاً، هو التزام مسافة التباعد الاجتماعي في الجلسات التي تضم شخصين أو ثلاثة في الحد الأقصى والتخلص من الكمامة للتواصل.
شفاهنا أدواتنا لنتحسّس بها من نحب. وباختباء الشفتين تفقد وجوهنا جزءاً أساسياً من هويتها وأهمها هويتها العاطفية
كتب جو نافارو، الخبير في التواصل غير المحكي ولغة الجسد على موقع مجلة Psychology Today أنه في العلاقات العاطفية، يلاحظ الثنائي فوراً إذا ما كان لدى الشريك مشكلة من خلال تقلص الشفتين أو الضغط عليهما. حتى القبل ستكون مختلفة إذا ما كان الشخص ليس مرتاحاً أو يعاني ضغطاً معيناً. فسيلان الدم يتخفف، ما يؤثر في امتلاء الشفتين، ودفئهما، ومرونتهما. شفاهنا تتمتع بردّ فعل فوري على ما يجري معنا في اللحظة إياها، وهي على صلةٍ مباشرة مع مشاعرنا وانطباعاتنا للغير.
وباختباء الشفتين تفقد وجوهنا جزءاً أساسياً من هويتها وأهمها هويتها العاطفية. أن تتعمّد النظر إلى شفتي أحدهم وهو يكلّمك فيه شيء من الفعل الرومانسي. فيه إطراء مثير يتجاذب المحبين بشكل خاص، لأن الشكل الاعتيادي هو النظر في العيون. أما النظر إلى الشفتين، فهذا فعل خاص خارج عن المألوف له حميمية فريدة.
شفاهنا أدواتنا لنتحسّس بها من نحب، لا ننسى طعم القبلة الأولى لأننا نفتتح البدايات ونحلم بها ونلاعبها. أما النهايات، فحزينة. نستشعرها، نعرف أننا نسير باتجاهها، لكننا لا ندرك لحظتها النهائية، فلا نقدّر قبلتنا الأخيرة لأننا جاهلون بها.