"حياتي العادية" لرولا الحسين: أن ننسى أننا نحدّق في حذاء أو سكّين

10 مايو 2023
كل ما ترسمه تعتبره بورتريه ذاتياً (من الفنانة)
+ الخط -

في مقالته الأثيرة، "في مدح الكسل"، يقول برتراند راسل: "أريد أن أقول بجدية إن العالم الحديث يصيبه كثير من الأذى نتيجة الاعتقاد بفضيلة العمل، وإن السبيل إلى السعادة والرفاهية ينحصر في الإقلال المنظم للعمل". بهذا، لا يبدو مستغرباً أن تُلقي الكاتبة والفنانة والتشكيلية اللبنانية، رولا الحسين، اللوم على العمل، محمّلةً إياه مسؤولية تأخّرها في إقامة معرضها الفردي الأول، الذي يستمر حتى نهاية الشهر الحالي في "غاليري أجيال" البيروتي، تحت عنوان "حياتي العادية".

في حديثها إلى "العربي الجديد"، توضِح الحسين سبب استغراقها كل هذا الوقت لتقيم هذا المعرض: "كنت موظفة طيلة السنوات الماضية (منذ ما قبل تخرجي 2003). وظيفة بدوام كامل ومسؤوليات كاملة. كنت أرسم ولكن ليس بانتظام، بل بحسب ما تسمح لي الطاقة والمزاج المتبقيان بعد استنزاف الوظيفة لهما، وحتى لقدرتي على البحث عما أريد أن أرسمه". تضيف: "لم أتمكن من التفرُّغ تماماً للرسم إلا عندما اتخذت قراراً بترك الوظيفة بشكل نهائي، لأعطي نفسي فرصة لأرسم من دون أي التزامات أخرى. وقد التزمت بتنفيذ هذا القرار منذ ما يقارب السنتين. هكذا، جاء هذا المعرض في وقته المناسب. لأنني لم أكن جاهزة قبل الآن، حتى وإن اعتقدت ذلك سابقاً".

ولعلّ تخلّص الحسين من العمل، أعادها إلى نفسها، وجعلها أقرب إلى حياتها اليومية بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة. لهذا، حين ننظر إلى اللوحات، نرى أن كثيراً منها يتضمّن أشياء وكائنات، كالمقاعد والكنبة والكؤوس والقمصان، إلى جانب كلبتها جينجر، والنباتات والفاكهة. اللافت، أنه رغم حضور كل هذه المفردات في حياتها اليومية/العادية، إلا أن هناك شعوراً بالعزلة تمنحه اللوحات للمشاهد. في هذا السياق، تقول الحسين: "هذا الشعور أو الانطباع دقيق. فأنا شخص منعزل إلى حد كبير. وعزلتي هي ما تتيح لي رؤية ومراقبة، ومن ثم حبّ ورسم كل ما ذكرته. رسوماتي لا تتضمّن آخرين، وهذا يشبه حياتي، وربما لهذا هي حياة عادية".

في عدد من اللوحات، ترسم الحسين نفسها، وجهها، أو أجزاء من جسدها. ومع الانطباع حول تلك العُزلة التي توحي بها الأعمال المعروضة، قد يحار المشاهد: هل ترسم نفسها كما لو أنها ترسم شخصاً آخر، أم أنها بورتريهات ذاتية للفنانة؟ تقول: "بشكل عام، لا أرسم إلا بورتريه ذاتياً، حتى عندما أرسم فنجاناً أو كنبة أو نبتة، وحتى ميسي ونينا سيمون وجينجر كلبتي، فكل هذه الأشياء والأشخاص امتداد لي أو لمزاجي وشغفي. لأنها أشياء. ورسمي لها كما رسمي لوجهي أو جسمي؛ إذ أرسم انطباعاتي المرتبطة بمزاج اللحظة. وبما أني لا أرسم نقلاً عن صورة (إلا نادراً)، فالانطباعات تكون حاضرة بقوة، ومتغيرة ومختلفة في كل رسمة".

كون الحسين تشعر بأن كل ما ترسمه ليس إلا ذاتياً، ويمثّل امتداداً لها ولحالتها الشعورية الخاصة، نتساءل: لماذا تظنّ أن حياتها العادية، وتفاصيلها الشخصية للغاية والحميمية، يمكن أن تمثّل موضوعاً يهمّ الآخر/المتلقي؟ تجيب: "الموضوع يهمني أنا، وهو الحّجة ككل المواضيع للرسم أو للإنتاج الفني. يهمني لأنه هاجسي، ولا يمكن أن أنتج أو أرسم بعيداً عن هواجسي. ولأنه هاجس تحول إلى موضوع للبحث. أنا أبحث وبحثي يظهر بشكل بصري وفني. والنتيجة رسم لفنجان ونبتة وكنبة وملعقة ووردة وساق. هذه هي مفردات معظم اللوحات عند معظم الفنانين، إنما بتأليف مختلف وضمن سياق أو موضوع مختلف. لماذا يهتم المتلقي بالموناليزا، أو بدوار الشمس؟".

تضيف: "الموضوع هو أحد عناصر العمل، وهو دائمًا شخصي حتى عندما لا يكون ظاهراً بهذا الأسلوب المباشر، والمتلقي عندما ينظر إلى عمل فني بصري هو معني بأكثر من الموضوع، فإذا نظر إلى رسمة الحذاء لا أتوقع منه أن يرى فقط حذاءً، بل أتوقع أن ينسى أنه ينظر إلى حذاء. المتلقي عندما ينظر سيرى الخطوط والألوان والشغف خلفهما (هذا ما آمله وأتوقعه)، وحينها سيكون سيان إن كان حذاءً أو سكيناً أو غيمة".

يبدو أنّ رسم المفردات اليومية، وإنجاز 170 لوحة سنراها مُعلّقة على جدران المعرض، لا يتطلّب وسائط وأدوات تحتاج وقتاً طويلاً لإعدادها. هكذا، لجأت رولا الحسين إلى أقلام الخشب الملوّن والورق. وعند النظر إلى اللوحات، نرى أن الخطوط كما لو أنّها حفرت في الورق، وتركت أثراً وخطوطاً قويةً. تعلّق على هذا الأمر: "أنا مهتمة بالخط، بل هو شغفي. وقد تنبهت للأمر منذ سنوات عندما تعلمت تقنية الطباعة/الحفر على الزنك. وأنتجت حينها (2006) بعض أعمال الحفر. ولكنني لم أتابع العمل بهذه التقنية لأكثر من سبب، أهمها أنها عملية صعبة وتتطلب وقتاً ومجهوداً لم أكن أملكهما بسبب الوظيفة، إضافة إلى ضرورة وجود محترف خاص يسمح بوضع مكبس وغرفة للأسيد وتفاصيل أخرى، وهذا أمر صعب تأمينه بما أنني كنت موظفة، وكنت أعيش خارج لبنان (دبي والدوحة وإسطنبول). الرسم بواسطة الأقلام يعني أنني أحصل على خط مع كل ضربة على الورقة، وهذا أروع ما يمكن أن أحصل عليه. خطوط كثيرة، تغطيها طبقات أخرى من الخطوط".

تضيف: "الرسم بأقلام الخشب الملونة على أوراق كرافت أو صفراء لم يكن قراراً مسبقاً، بل ممارسة تطورت عضوياً عندما وجدت أن هذه المواد ترضي شغفي بالخط واللون على حد سواء. لم أحصل على هذا الرضا من الأكريليك عى كانفاس، ولا حتى من تقنية الحفر على الزنك. ومع كل رسمة اكتشفت مُتعاً إضافية". تتابع الحسين: "القلم يكاد يكون امتداداً لإصبعي، لا يوجد وسيط بيني وبين القلم، وهذا الشعور مفقود مع الريشة. رقة الخط والطبقات المتعددة التي يمكنني خلقها والحساسية التي أحصل عليها نتيجة التقاء القلم المبري على الورق الخالي من المسامات تناسب حساسية مزاجي وبصري. وأحصل عليها مع كل ضربة قلم، وهناك مئات الضربات في كل رسمة".

في تلك الـ170، نلاحظ أن الحسين كرّرت كثيراً من المفردات في عدة لوحات، مثل الجوارب والأقدام والفناجين والكؤوس. لماذا؟ ما الذي يؤكده أو يقترحه هذا التكرار؟ تجيب: "عنوان المعرض "حياتي العادية"، وفي حياتي العادية نمط متكرر، ومفردات متكررة، وعادات وطقوس عادية متكررة. كما أنني أحب القليل من الأشياء، وتكراري لممارستها أو استخدامها هو إثباتي على حبي لها، وأحياناً يمثّل هواجسي بها".

توضِح: "لأنني أحب الخطوط (ليس فقط رسماً)؛ فأنا أرتدي كثيراً من الملابس والجوارب المقلمة والخواتم والأساور الرفيعة. ولأنني عندما تعرفت على قهوة "الكورتادو" لم أتوقف عن تناولها، ولأنني أحب المقاهي أرتادها كثيراً. وفي الحقيقة، هناك (في المقاهي)، بدأت الرسم بأقلام الخشب الملونة على الورق".

تضيف: "لأنني كنت في إسطنبول أمضي أوقاتاً طويلة في المقاهي، وغالباً وحدي، قررت أن أبوح على الورق بحبي للأشياء والمفردات البصرية التي أراها وأتعامل معها. وتطور هذا البوح مع الوقت، وكبرت مع تطوره مجموعة دفاتري وأوراقي وأقلامي. وصار هذا البوح أشبه باليوميات ثم الأرشفة".
تتابع الحسين: "لا يكفيني أن أنظر مرة واحدة أو مرتين أو ثلاثاً إلى نبتة أعجبتني، وبالتالي لا يكفيني أن أرسمها سوى مرة واحدة. تستحق مني أكثر مقابل ما منحتني إياه. التكرار هو تأكيد الشغف وإن كان اتجاه أشياء عادية في حياة عادية".

المساهمون