استمع إلى الملخص
- رغم مشاركة الأفلام السورية في المهرجانات الدولية وحصولها على جوائز، لم تحقق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، حيث ركزت على القضايا السياسية والإنسانية بدلاً من السرد التقليدي.
- تميزت أفلام الثورة بتأثير التلفزيون، معبرة عن مواهب جديدة تسعى للتعبير عن أفكارها وتطلعاتها في ظل الظروف الصعبة.
من ناحية التأثير، لم يكن للسينما وأفلامها في سورية أثر اجتماعي يُذكر، منذ مستهل ثمانينيات القرن العشرين. حينها، كانت السينما في شتى تجلياتها بدأت تحتضر، لتسلم الروح مع بداية تسعينيات القرن نفسه، وتتحوّل إلى اهتمام نخبوي، عبّرت عنه الصالات السينمائية الفارغة، إلا في مناسبات، كـ"مهرجان دمشق السينمائي"، والعروض الأولى لأفلام "المؤسّسة العامّة للسينما"، ويكون الحشد مناسباتياً عابراً، لا يترك أثراً إلا عبر مقالات صحافية انطباعية، تُجسّد مكانة السينما في الأداء الاجتماعي.
حتى ما قبل 18 مارس/آذار 2011، يُمكن اعتبار جميع السينمائيين مُعارضين بدرجة أو بأخرى. ربما كانوا متذمّرين من الحالة الحقوقية التي يعيشها الاجتماع السوري، كتذمّر عام بين المثقفين، وهذا واضح في بيان الـ99. ذلك أنّ عدد السينمائيين الموقّعين عليه أكبر من نسبتهم عددياً في الوسط الثقافي السوري. وبعد قيام الثورة السلمية في بداياتها، انقسم السينمائيون إلى ثلاثة أقسام: مؤيّد ومعارض، وصامت يُحافظ على تذمّره الرمزي مما آلت إليه الأمور.
طبعاً، ما آلت اليه أمور السينما والأفلام أنّها انحصرت بـ"المؤسسة العامة للسينما"، صناعة وعروضاً وتوزيعاً، إلى مجيء الحدث الثوري، إذ انشقّ سينمائيون عديدون وغادروا البلد، ليعيشوا حالة عطالة سينمائية. بينما ظهر سينمائيون جدد، وغالبيتهم شباب. وفي الخارج طبعاً، طاردوا فرص تمويل أجنبي، وصنعوا أفلاماً قصيرة وطويلة، روائية وتسجيلية ووثائقية، متباينة الجودة فنياً وتقنياً، شاركت في مهرجانات، ونالت جوائز، كـ"يوم أضعت ظلي" (2018) لسؤدد كعدان، الفائز بـ"أسد المستقبل" في مسابقة "آفاق" في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، والوثائقي "من أجل سما" (2019) لوعد الخطيب والبريطاني إدوارد واتس، الفائز بجائزة "الأكاديمية البريطانية للأفلام (بافتا)" أفضل فيلم وثائقي (النسخة 73، 2 فبراير/شباط 2020)، والوثائقي أيضاً "آخر الرجال في حلب" (2017) لفراس فياض، إذْ عرف هذا النوع من الأفلام تقبّلاً مناسباتياً، نظراً إلى أهوال الحرب السورية، المنقولة في الفضاءات الإعلامية.
كثيرة، "نسبياً"، تلك الأفلام السورية التي عُرضت في مهرجانات سينمائية ومنصّات رقمية، لكنّها لم تشكّل علامة فارقة في الإقبال الجماهيري. فالسينما ماتت بالنسبة إلى السوريين، وهذا الحكم التقديري يشمل أفلام المعارضين اللاجئين وأفلام الموالين المتذمّرين في الداخل، رغم المشاركة في مهرجانات، والحصول على تقريظات صحافية كثيرة. فهذان العاملان ركّزا على المانشيتات السياسية المتعاطفة مع هذا التوجّه أو ذاك.
"يوم أضعت ظلي" حكاية بصرية مخلخلة، عن سيناريو غير مكتوب باحترافية مناسبة، وليس في سرده أشياء جلية تماماً، أو أشياء لا تحتاج إلى شرح. فجُلّ مفردات السرد البصري مفتوح على شروحات تأويلية، وعمنّ هم هؤلاء. كأنّه مُكتفٍ بفهم صانعيه له، فما نفهمه من بدايته أنّ هناك سيدة تعود من عملها للضرورة، لإعداد وجبة طعام لابنها، فتتفاجأ بفراغ عبوة الـ"بوتغاز"، ثم تخرج من بيتها لاستبدالها، لكنّها لا تعود إليه، لتورّطها برحلة "رود موفي"، تطّلع فيها على الحاصل خارج منزلها. حكاية غير مُشوّقة تماماً، يصعب على المشاهد العادي فهمها والتفاهم معها. فلا الأمكنة مسمّاة أو معروفة، ولا الأشخاص. حتى لحظة فقدان الظلّ، وهذا محوري في الفيلم، يعبر من دون انتباه إليه. مع عودتها إلى بيتها، نكتشف أنّ علاقتها مع ابنها مدّعاة وظاهريّة، ولم يكن ضرورياً الخروج من المنزل أساساً للقيام برحلة في الفيلم. هنا، يُشار إلى عدم احتراف صنّاعه، فالمشروع السينمائي خيريّ، تُراعى ظروفه المعقّدة من وجهة نظر المهتمّين.
موازاة لذلك، يظهر "من أجل سما" أكثر احترافية، وأحيل هذا إلى الإنكليزي إدوار واتس كمخرج مُشارك، استطاعت وعد الخطيب معه إنشاء قصة خلفية، يُفهم منها أنّ هناك قصة درامية واقعية حصلت في ثنايا القصف الوحشي على المدنيين العزل، في أحد مستشفيات حلب، مستفيدة من المواد الأرشيفية التي صوّرتها الخطيب بنفسها، وغيرها، فحصلنا على رواية بصرية متماسكة، لإخلاصها إلى الرواية المكتوبة كسيناريو، يُمكن فهمه والتفاهم معه. خرجت الخطيب وواتس بحكاية بصرية واضحة، لا تحتاج إلى شرح لمُشاهد عادي أينما كان في العالم.
لعلّ هذين النموذجين يعبّران عن مسار الثورة الحاصلة في سورية سينمائياً. لكنْ، في النهاية، يمكن تسميتها بسينما اللجوء أيضاً، بغض النظر عمّا إذا كان جُلّها صُنع في الخارج أو الداخل، كـ"عن الآباء والأبناء" (2017) لطلال ديركي، الذي يُصوّر، في مكان خارج عن "القانون"، حياة أسرة خارجة عن "القانون"، بكلّ حيادية، إذْ لا بشر موجودون مثلنا أينما كنا. فالأفلام هنا تعبيرٌ عن الوجود.
في هذا المقام أيضاً، يُتَذكّر فيلم منسي لعبد اللطيف عبد الحميد: "صعود المطر" (1995)، الذي تنبّأ بحصول ثورة ما، على أساس أنّه لا بُدّ من حصول ثورة، مقارنة مع هذا الواقع المزري. ورغم حصول العبث الرقابي بالسيناريو المكتوب، وكذلك في مرحلة المونتاج، يستشرف الفيلم ثورة بعرضه واقعاً مسدود الأفق، بدلالة الحصار الخانق على المبدعين. والخلاص؟ حلمٌ بثورة ما.
ملاحظة أخيرة يمكن الالتفات إليها في أفلام الثورة: الرؤية التلفزيونية لصنّاع أفلام. كأن التلفزة دخلت إلى عمق التفكير السينمائي، جاعلة أفلام هذه المرحلة هجينة تتراوح بين الصالة المعتمة والجلوس المريح قبالة شاشة التلفزيون. هنا، يمكن إعادة النظر في تصنيف الأعمال المصنوعة في تلك الفترة، موالاة ومعارضة.
في كلّ الأحوال، كانت الجهود البصرية، المبذولة في الثورة، تعبيراً حقيقياً عن مواهب تحاول أخذ مشروعيّتها، نتيجة تعاقب الأجيال، الذي يُنتج بداهة أفكاراً جديدة وثقافات جديدة، يُفترض التعبير عنها كحقّ من حقوق الإنسان.