حماة ونواعيرها... عن مياه العاصي وذاكرة المدينة والثورة

08 يناير 2025
سوريون قرب نواعير حماة، 6 ديسمبر 2024 (عمر الحاج قدور/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تُعرف حماة بلقب "أم النواعير" بفضل نواعيرها الخشبية التي تعود للحقبة الرومانية، والتي تُعد رمزاً للمدينة وذاكرتها، حيث شُيدت لتروي الأراضي والبساتين.
- انضمت حماة للثورة السورية في 2011، وشهدت تظاهرات ضخمة واجهتها قوات النظام بالقمع، مما أدى لتحول الثورة إلى مقاومة مسلحة، وسيطرة النظام على المدينة.
- رغم المحن، تحتفظ حماة بذاكرتها المقاومة، حيث تروي معالمها التاريخية ونواعيرها حكاية صمود شعبها وإرثهم الذي لا يندثر.

يقف عمر الفرواتي، الستيني من حي الحاضر في مدينة حماة، قرب نواعير العاصي عصر كل يوم منذ تحرر المدينة قبل سقوط النظام السوري بيومين. يتأمل النواعير التي شكلت جزءاً من طفولته وذكرياته، ويقول: "علاقتي بهذه النواعير وطيدة منذ أكثر من نصف قرن. كنت أخبرها بأفراحي وأبوح لها بأحزاني. عندما تحررت حماة، كانت وجهتي الأولى إليها، وصرخت عندها: ناعورتي، افرحي! أنا حر وحر وحر". يتابع الرجل حديثه بصوت مشوب بالعاطفة: "منذ عيد الأضحى الأخير، لم أزر النواعير. كنا نخشى الخروج بسبب الحواجز الأمنية التي تحصي أنفاسنا. أما الآن، فكل يوم هو عيد. أشعر أن النواعير تشاركني الفرح؛ عندما تدور، أظنها تتنفس الحرية معنا".

حماة "أم النواعير"

تُعرف مدينة حماة الواقعة شمال دمشق على بعد نحو 210 كيلومترات بلقب "أم النواعير"، وتعيش هذه الأيام فرحتها الكبرى بتحررها من قبضة نظام الأسد.
النواعير، تلك الآلات الخشبية التي تدور بقوة المياه، هي رمز المدينة وذاكرتها. يعود بناؤها إلى الحقبة الرومانية، حين استُحدثت لرفع مياه نهر العاصي إلى المناطق المرتفعة، وري الأراضي والبساتين. تُعد الناعورة تحفة هندسية بسيطة وفعالة، إذ تدور دورة كاملة كل عشرين ثانية، لترفع نحو 2400 لتر من المياه.

تاريخياً، دخلت حماة تحت الحكم الروماني عام 64 ق.م. وشيد الرومان النواعير على ضفاف العاصي، وأقاموا قنوات مائية لتغذية المدينة والقرى المجاورة. أحاطت أسوار بيضاء بالمدينة التي بناها الإمبراطور الروماني أسطتينوس لتظل شاهدة على عظمة تلك الحقبة حتى فتحها المسلمون بقيادة أبي عبيدة بن الجراح عام 18 هـ. تحولت حماة إلى جزء لا يتجزأ من الدولة الإسلامية، وازدهرت ثقافياً واقتصادياً.

صارت المدينة مركزاً مهماً للعلوم والتجارة بفضل موقعها الاستراتيجي على ضفاف نهر العاصي الذي يقسمها إلى جزأين: الحاضر في الشرق، والسوق في الغرب.

حماة والثورة

مع انطلاق الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، كانت حماة من أوائل المدن التي لحقت بركب الاحتجاجات. خرجت تظاهرات ضخمة واجهتها قوات النظام بالدبابات والقمع. وبحلول أغسطس/ آب من العام نفسه، فرض الجيش السوري سيطرته على المدينة بعد اقتحامات واعتقالات واسعة النطاق. لم تكتفِ القوات السورية بالقمع الأمني، بل ارتكبت مجازر مروعةففي 25 إبريل/ نيسان 2012، قُتل 50 مدنياً في حي مشاع الطيار، جنوبي المدينة، إثر قصف بالصواريخ، تبعه تهجير نحو 30 ألف شخص وهدم الحي بالكامل. ومع تصاعد وتيرة العنف، تحولت الثورة السلمية في حماة إلى مقاومة مسلحة، لكن فصائل المعارضة اضطرت لمغادرة المدينة، ما أدى إلى تعزيز قبضة النظام الأمنية وانتشار الحواجز والاعتقالات التعسفية.

نهر العاصي

ينبع نهر العاصي من جبال لبنان الشرقية ويعبر عدة مدن سورية، أبرزها حمص وحماة، قبل أن ينتهي في البحر المتوسط. لقّب بـ"العاصي" لاستعصاء أخذ مياهه من دون نواعير. يقسم العاصي مدينة حماة إلى قسمين: الحاضر في الشرق والسوق في الغرب. تدور النواعير على ضفتيه لتروي بساتين المدينة وبيوتها ومساجدها. من أبرز النواعير: المحمدية، الجسرية، البركة، والخضر. وكل منها تحمل ذاكرة مرتبطة بأهل المدينة وتاريخها.

ذاكرة المجازر والمقاومة

تُعرف حماة بتاريخها العريق، لكنها تحمل أيضاً جروحاً عميقة، أبرزها مجزرة 1982 التي راح ضحيتها عشرات الآلاف نتيجة قصف النظام السوري. واليوم، تحتفظ المدينة بذاكرتها المقاومة، حاملة لقب "أم النواعير" وشاهدة على نضال شعبها الممتد لعقود.
رغم المحن التي واجهتها حماة على مر العصور، إلا أن المدينة لم تفقد هويتها. شوارعها القديمة، معالمها التاريخية، وصوت النواعير الذي ينساب كأنشودة لا تنتهي، تروي حكاية مدينة واجهت أعتى الظروف وبقيت صامدة. النواعير ليست مجرد أدوات مائية، بل هي رموز تعكس صمود الحماصنة وإرثهم الذي لا يندثر.
المساهمون