في أعماله، يمتزج الروائي بالوثائقي إلى حدّ الالتباس. يؤكّد ذلك أسلوبه في إدارة ممثليه والتصوير، وفي رسمه الكادرات، وفي المونتاج. كذلك، قدرته على اختيار تيمات ذات طابع إنساني، عن أحلام الناس وآمالهم. إنّه أحد أبرز الأسماء المغربية ذات الخصوصية السينمائية، المخرج حكيم بلعباس، المولود في المغرب، والمُقيم في شيكاغو، حيث يُدرّس السينما في "مدرسة شيكاغو للفنون".
من أشهر أفلامه: "أشلاء" (2009)، الذي اعتبره نقّاد سينمائيون قفزة نوعية في مسار السينما المغربية؛ و"عش في القيظ" (1996)، و"همسات" (2001)، و"خيط الروح" (2003)، و"علاش البحر" (2006)، و"هذه الأيادي" (2008)، و"أحلام ثائرة" (2011)، و"محاولة فاشلة لتعريف الحب" (2012). فاز "شي غادي وشي جاي" بجائزة أفضل سيناريو، في مسابقة المهر العربي في "مهرجان دبي السينمائي الدولي (2011)".
أحدث أفلامه، "انهيار الجدران" (2021)، شارك في مهرجانات عدّة، وكان دافعاً إلى حوار "العربي الجديد" معه.
(*) "انهيار الجدران". متى وصلت إلى هذا العنوان؟ هل بعد اكتمال المونتاج، أم منذ مرحلة باكرة؟ هل كنتَ تقصد به انهيار الجدران والفواصل الحاجزة بين مشاعر البشر وتجاربهم، كأنّك تنفي وجود الجدران في الحياة؟ أم ربما تنفي انتصاب الجدران بين الأرواح الهائمة لمن رحلوا، وذويهم الذين لا يزالون أحياء؟ ماذا تقصد به؟
هناك تيمة تدور في فلك أسئلتك، وكلّها تتنفس من خلال فضاء حضن أمي، وحضن مدينتي الصغيرة العتيقة، أبي الجعد، التي ترفض الموت منذ قرون. إنّه فضاء صوفي روحاني يعارك الفناء. هنا موقع البئر التي أعود إليها دائما لأرتوي من مائها الذي لا ينضب. وصلت إليه منذ سنوات، حين كنتُ أتجوّل ليلاً بعد عروض الليل في قاعة والدي السينمائية، رفقة مصطفى، مُشغِّل آلات عرض قاعة "سينمانا" في أبي الجعد، الذي كانت له نظرة حدسية ثاقبة عن طبيعة البشر، وعن الشرط الإنساني. كان يُعبّر عنها بقوله: لو انهارت جدران منازل المدينة ليلاً لتعرّى كلّ شيء، ولصار بيِّناً لنا جميعاً مدى عمق حبّنا لبعضنا البعض، ومدى أذيّتنا وجرحنا لبعضنا البعض، خاصة كيف أنّ أقرب الناس إلينا هم، أحياناً، مَنْ يؤذوننا ونؤذيهم عن غير قصد، أو عن قصد.
خلال تجوالي ليلاً مع مصطفى، في أزقة أبي الجعد، كنتُ ـ وأنا مراهق ـ أعي وقع ما كان مصطفى يعبّر عنه من تناقضات النفس البشرية وعنفها، وسط سكون الليل. ذلك الإحساس سكنني منذ تلك الفترة، ولا يزال يسكنني إلى اليوم، خاصة بعد مشواري في مسالك الآداب الإنكليزية والعربية والفرنسية، والموسيقى التي ترعرعت عليها باختلاف منابعها، والأفلام التي وشمت وجداني. لكن الأساسيّ مدى وعيي اللاشعوري، غالباً، بما يدور حولي، وما أمتصّه وأستنشقه من تجلّيات بشرية شاهدتها وأشاهدها، وألاحظها حولي.
في النهاية، أحاول الوصول إلى فكرة الـ Every Man، فجميعنا روحٌ واحدة.
(*) كتبتَ في مقدمة الفيلم: "حكايات من ذكريات طفولة في مدينة صغيرة". لماذا اخترت أنْ تنفي التعريف عن لفظ "طفولة"؟ أهذه رغبة في التعبير عن أنّ تلك الذكريات لا تخصّك أنتَ وحدك، بل ـ ربما ـ تخصّ آخرين أيضاً؟
صحيح تماماً. كما أنّ حكايات الفيلم قراءات واقتباسات وتأويلات لحكايات عشتها، أو ظننت أنّي عشتها، أو أنّها ربما رُوِيَت لي.
(*) إذاً، كيف ولدت فكرة الفيلم؟ وكيف تطوّرت؟
منذ وقت طويل أكتب هذه الحكايات على شكل قصص قصيرة من ذكريات طفولتي، والشخوص/الشخصيات أثّثت تلك الذكريات.
(*) كيف بدأت استعادة الذكريات؟ لأنّه مهما كانت الذكريات موجودة في مركز الذاكرة، تحتاج أحياناً إلى إنعاشها، ربما عبر عنصر فعَّال. كيف فعلتَ ذلك؟
سؤالك يذهب إلى صلب عملية الكتابة، الذي أجد نفسي أسبح فيه. كتابة متشظية، تتراكم بتراكم الصفعات الوجدانية، التي تنتصب في طريق ما، أو تصيبني حين لا أنتبه، والتي أتوق إليها لأنّها الصفعات الوحيدة التي تعكس "حقيقة" الأشياء، لا "واقعيتها". أذكر ما عبّر عنه مارسيل بروست في ما كتب عن "الزمن الضائع"، ومحاولة إعادة القبض عليه.
(*) كأنّ الفيلم عن القدر والحياة، بكل ما فيها من حبّ وفقدان، وموت وحياة، وشعور المعاناة، والوحدة والغضب والتهوّر. فيلم عن الإنسان بكل أشباحه وهلاوسه وأحلامه وهواجسه وآماله، بتلك الفوارق بين الأجيال، سواء بالصراع أو بعدم الفهم أحياناً، لكنها تنهار سريعاً بالتقارب الإنساني الذي ينفي معه وجود أي حواجز. يتّضح ذلك بقوّة في مشهد وفاة الرجل الذي احتجّ على ضجيج الأطفال، لاعبي الكرة، ودخل في سباق غير متكافئ، ثم تعاطف الأطفال معه؛ أو الشاب الخارج من السجن، الذي تتبنّاه المرأة التي فقدت ابنها.
إيماني كبير بأنّنا مهووسون بتيمة واحدة، Obsessed With One Theme، نجري وراء محاولة فكّ ألغازها، ونعيد حكيها مرات عدّة بتنويعات متجدّدة. تيمتي في الحياة مرتبطة بمسألة القضاء والقدر. أحاول جاهداً أنْ أركّز على ذلك، ليس في الحكاية فقط، بل في كلّ تفاصيل الحكي إلى حدود اللقطة. ربما كان ذلك وراء ما يسعفني الحظّ أو القدر في الوصول إليه، رفقة كلّ من يعمل معي من طاقم ومشخّصات ومشخّصين، سواء كانوا محترفين، أو كانوا يقفون لأول مرة أمام كاميرا، تحاول من خلالهم القبض على مغيب، أو القبض على زمن.
(*) الموت موجود بقوّة في حالات عدّة، 4 على الأقلّ، لكلّ منها حكايته، وكيفية مواجهته. حتى الأم، التي تزوّج ابنتها، تبكي في العرس وترقص بقوّة، من دون أنْ يدري الآخرون أنّها تبكي أمّها التي توفّيت للتوّ. لا يدرك الحضور أنّها دموع الحزن لا دموع الفرح. كأنّها زوربا آخر. كأنّها تأكيد آخر، وتنويعة مغايرة للعنوان، "انهيار الجدران". هل كنتَ أثناء صنع فيلمك تبحث عن التوازن بين الحياة والموت؟
هذه الحكاية روتها لي أمي يوماً. حكاية تخصّ زوجة عمّ أمي، نانة، التي عُرفت بصرامتها وعدلها في العائلة. توفّيت أمّها يوم زفاف ابنتها، فقرّرت أنْ تقفل باب حجرة أمّها، وتكتم السرّ إلى حين انتهاء مراسم زفاف ابنتها العروس. هذه الحالات الإنسانية التي تحوم حولي، بألمها وتناقضاتها، تُحرّكني وجدانياً، وأسعى إلى "ترجمة" صيغها وصورها البلاغية، التي تهدي نفسها للّغة السينمائية.
(*) التفاصيل التي تجمع فيها بين الحيوانات وعالم البشر تُعدّ من أجمل اللقطات وأرقّها. القطّة التي تنظر إلى الرجل، الذي أعتقد أنّه روح الزوج المتوفي. كذلك العصافير في مشهد الغناء الأكثر من رائع. كيف ولدت تلك المشاهد؟
مشهد القطّة عفويٌّ تماماً. في التصوير، انتبهنا ـ أمين المسعدي، مدير التصوير ورفيق الدرب، وأنا ـ إلى وجود قطّة تتأمّل حركات الممثلين. نظر أحدنا إلى الآخر بسرّية، ولم نُخبر أحداً من فريق العمل. طلبتُ من الممثلين إعادة المشهد، وركّزنا على حركات القطّة. بعد انتهائنا، وأمام حيرة الجميع، ضحكنا كثيراً، أمين وأنا. ثم شرحت للجميع قيمة ما أهدته إلينا هذه القطّة الوديعة.
(*) بطل مشهد العصافير ساحرٌ، خاصة أثناء تجهيزه لتكوين الكادر، والكاسيت والعصافير، ثم لاحقاً حزنه العميق، ولقطته مع زوجته التي تبدو كأنّها استدعاء، أو "فلاش باك". هل كان سهلاً عمل الـ"كاستينغ" لأبطال فيلمك؟
العم عبد القادر ليس ممثلاً محترفاً، بل خيّاط جلاليب تقليدية في مدينتي. حكايته مع عصافيره، ومحاولته تلقينهم الغناء على صوت أم كلثوم وهي تغنّي رائعتها "الأطلال"، التي تحكي صراع محبَّين مع قدريهما، كانت تراودني منذ صغري. حينها، كنتُ أدهش بما يقوم به العم عبد القادر، هو المُتيّم بقصائد أم كلثوم وكتابات طه حسين.
قبل وقتٍ، روى لي أنّه راسل طه حسين، ذات يوم، طالباً منه أنْ يُعِينه على إيجاد حلّ كي تُغرم به المرأة المُغرم بها، التي رفضت طلبه للزواج بها. وصف لطه حسين غيرته من حبّ سوزان له، وسأله هل هناك حيلة يمكنه اتباعها لتُغرم هذه المرأة به. في النهاية، تزوّج عبد القادر حبيبته، وأنجبا أطفالاً. إنّها المرأة التي نراها تتمشّى مع زوجها في غابة أبي الجعد.
الغريب أنّ عبد القادر رفض أنْ نستمر معه في تصوير ما تبقى لنا، عشية يوم التصوير، لأنّ ذلك الوقت يخصّصه لنزهته اليومية مع زوجته. طلبتُ منه إن كان يُوافق على مرافقتنا لهما في نزهتهما، فقبل كما قبلت زوجته، فكان مشهد الغابة. في المونتاج، اتّضح لي جليّاً أنّ صُور الغابة وصوت أم كلثوم وزقزقات العصافير أصبحت ضرورية لحبكة روميو وجولييت أبي الجعد.
(*) الممثل الذي يُؤدّي دور مَنْ يدهن جدار العمود فوق السطوح، ثم جدران حمّام النساء، ويُمثّل مقطعاً من مسرحية "عطيل". إنّه حكاية أخرى. أراه شخصية غير عادية. نظرة عينيّ الخبّاز أثناء الإنصات إليه نظرة بليغة وموجعة ومُعبّرة أكثر بكثير من آلاف الكلمات.
صلاح العسري، الممثل المسرحي الذي لم يشتغل في عمل سنيمائي قبل هذا الفيلم، توفّي بعد أشهر من انتهاء التصوير. كان سخيّاً في أدائه، ووديعاً في نظراته. لم أحتج معه إلى أكثر من سردٍ لحكاية داهن المنازل، المُلقّب بـ"كرمومة"، الذي كنا نشاهده في طفولتنا ينام على سلّمه، ويدهن بالجير كلّ ما يعترض طريقه، غير آبه إنْ كان ذلك درّاجة أو إناء نباتات.
قبل أنْ نبدأ تصوير مشاهده، سألته عمّا إذا كان يُحضّر مسرحية ما مع فرقته، فأجابني أنّه يشتغل على دور عطيل، في نصّ مستمدّ من شكسبير، للكاتب المغربي عبد الكريم برشيد، بعنوان "عطيل والخيل والبارود". ثم أدّى مونولوغ المناجاة، الذي مثّله أمام الكاميرا. هذا جعلني أقارب كلماته بما كان يحسّ به دهان الجدران في طفولتي، كـ Back Story. بعد ذلك، نزلنا من سطح حمّام النساء الذي كنا نصوّر فوقه، لنستريح قليلاً، ونحتمي من حرارة الشمس في فرن مجاور للحمّام. سألني الخبّاز، صاحب الفرن، عن معنى الكلمات التي كان يسمعها حين كنا نصوّر. قال إنّه لم يفهم كلّ المعاني، لكنّه شعر بها. استوقفني فضوله وحسّه أمام كلمات شكسبير، فطلبتُ من العسري إعادة أداء المونولوغ، لأرصد بالكاميرا ردّة فعل الخبّاز.
(*) اعتمد السرد على تقنية "فيلم داخل فيلم". كأنّ المرأة المُسنّة في البداية، الجالسة في قاعة العرض، ترى فيلمها المفضّل ونحن نشاهد معها، أو نتلصّص عليها. أو ربما نكون في موقع الرجل الذي يقبع في غرفة ماكينة العرض. هل كانت تلك محاولة منك لخلق خيط حريري يربط المَشاهد، ويُبرّر وجودها؟
هذه القاعة كانت سينما والدي. كتبتُ المشهد في ليلةٍ قبل بدء التصوير، بعد قلق وأرق بشأن غياب "خيط حريري"، كما أسميتِه، يرسّخ نسيجاً عضوياً لكلّ حكايات الفيلم.
(*) في الفيلم أغنيات مصرية كثيرة، لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وليلى مراد وأسمهان، ومن السينما الهندية، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى في الأكسسوار والصُوَر. أكان هذا مقصوداً منذ البداية، أم أنّ إحساسك بالمَشاهد جذب إليك تلك المقاطع الموسيقية والغنائية؟
كلّ المقاطع الموسيقية والغنائية في قاعة السينما أشباحُ الأفلام المعروضة في قاعة سينما والدي على مدى سنين، والتي سكنتني، وربّت فيّ ذوقي منذ طفولتي. الصوت يدوم في داخلها ديمومة الزمن. أسمع صداه، وأصوات من اعتادوا ارتياد القاعة، التي كانت ملجأ للسلوان والحلم بعوالم علّمت الحبّ لأجيالٍ من بلدتي. تلك المقاطع تبادرت إلى ذهني في فترة المونتاج، التي دامت نحو عامٍ تقريباً، إذْ كانت تحضر الموسيقى كلّما جلست لأشتغل على ذلك المشهد.