حكاية لميشيل كيلو في فيلمين: النيّة الحسنة وحدها لا تصنع سينما

23 ابريل 2021
ميشيل كيلو: صدمة سؤال المعنى (ألكسندر زمْلِيانيتشينكو/ فرانس برس)
+ الخط -

تطرح استعادة فيلمين قصيرين، غداة رحيل السوريّ ميشيل كيلو (1940 ـ 2021)، أسئلة عدّة، عن العلاقة بين النصّ الأصلي والترجمة البصرية، وعن النيّة الحسنة في اقتباس نصّ يمتلئ بمشاعر تعكس شيئاً من واقع قاسٍ، وعن معنى التحرّر من الأصل المكتوب في النصّ البصريّ، وعن السينما أيضاً، لغة وتجربة ومعطيات وبناء.

الفيلمان القصيران ينبثقان من نصّ واحد، يرويه ميشيل كيلو قبل أعوامٍ، فيعثر فيه المخرجان، السوري يامن منذر المغربي والفلسطيني نصري حجّاج، ما يعتبرانه سَبْراً لتفاصيل الحكاية، التي يعيشها كيلو نفسه ذات مرة، في إحدى فترات اعتقاله. وإذْ يندرج الفيلم الأول، "الملك لا يموت" (2013، 9 دقائق)، في إطار أكاديميّ في "المعهد العالي للسينما"، بإشراف المصريّين علي بدرخان وسلوى بكير؛ فإنّ الثاني، "العصفور" (2018، 15 دقيقة)، يأتي بعد اختبار عملٍ سينمائيّ، وثائقي وروائي قصير، يحفل بمواقف أخلاقية وثقافية وفنية، تطغى على السينمائيّ، لشدّة التزام حجّاج بها، من دون تغييب كامل للبصريّ والدراميّ.

قصّة ميشيل كيلو مؤثّرة. نبرتُه في سردها تبدو، لوهلةٍ، كأنّها محايدة. فالقسوة المعيشة عند حدوثها توهم المستمع، أحياناً، بحيادية راويها. التأمّل في مشهد سرد القصّة، والتنبّه إلى مخارج الحروف وسياق الجُمل، والاستماع الأعمق إلى المبطّن في القصّة وأسلوب سردها في آنٍ واحد، كفيلةٌ كلّها بكشف ارتجافٍ خفيف، يُتقن ميشيل كيلو ـ الخبير في أهوال الحياة والعيش بسبب تحدّيات (بعضها مصيريّ) يواجهها ـ في التحايل عليه. سردٌ مُبسّط لحكاية يختبرها كيلو شخصياً، ونبرةٌ تقول ـ إلى جانب السرد ـ فصلاً من أحوال القمع البوليسي في سجون النظام الأسديّ في سورية. تفاصيل قليلة، فاللحظات التي يمضيها كيلو مع طفلٍ وأمّه المسجونة منذ أعوام (يبحث النظام الأسديّ عن والدها، فاعتقالها ضغطٌ عليه لعلّه يُسلِّم نفسه لأجهزة القتل والتعذيب والمهانة لإنقاذها)، في اعتقالٍ من اعتقالاته المتكرّرة، تمتلك تاريخاً من الشقاء السوري، في بلدٍ يُصادره الأسد الأب، ويُكمِل الأسد الابن مُصادرته وحرقه.

يطلب السجّان من ميشيل كيلو سرد قصّة لطفلٍ مولودٍ في السجن. يبدأ الكاتب والناشط ما يعتبره بديهياً، مستعيناً بما يُفترض بأطفالٍ كثيرين معرفته: عصفور وشجرة وساحة لعب، وأولاد يتشاركون مسائلَ عاديّة في عيشهم الهادئ. لكنّ كيلو يُصدَم بسؤال غير متوقّع البتّة، فالولد يسأل عن المعنى، وكيلو، الضليع باللغة والثقافة والعيش، يعجز عن تلبية مطلبٍ بسيط، بالإجابة عن: ماذا تعني شجرة؟ ماذا يعني عصفور؟ ماذا يعني كذا وكذا؟ السجّان خبير بفنون التعذيب والإهانة. يتحدّى مثقّفاً بما يُدرك سلفاً أنّ المثقف، غير العارف بالتجربة قبل اختبارها، لن يتمكّن من "النجاح" فيها.

 

 

فيلما المغربي وحجّاج، بتصرّفهما بالقصّة وفق مقتضيات التفكير والموقف والرغبات الخاصّة بكلّ واحد منهما (السائل عن المعنى في فيلم المغربي طفلٌ، بينما في فيلم حجّاج طفلة) يخضعان للانفعاليّ فيها، أكثر من تحرّرهما منه. حساسية اللحظة، بما تحمله من مشاعر وصدمات وتحدّيات، تصعب مقاربتها بانفعالٍ يتساوى وانفعال الحدث. اختزال القصّة بسؤال التعذيب، النفسي والجسدي والمعنوي، يُلغي بواطن عدّة، أبرزها امتلاك النصّ الأصليّ بساطة وعفوية، تغيبان ـ بشكلٍ ما ـ عن سردية درامية يُفترض بالفيلمين اعتمادها. النيّة الحسنة، إنسانياً وأخلاقياً وثقافياً، غير كافية البتّة، وغلبتها على الاشتغال السينمائيّ تظهر في عجز الحبكة الدرامية عن تلبية الأصل، درامياً وفنياً وجمالياً. التمثيل مرتبك، إذْ تبدو الشخصيات الـ4 في كلّ فيلم (السجّان والسجين، والأم وولدها/ ابنتها) خاضعة لأداءٍ، غير قادرٍ على التحكّم بالحدّ الفاصل بين انفعال الحكاية وسردها سينمائياً.

النصّان السينمائيان مشحونان بعواطف، وهذا مطلوب، فالقصّة الأصلية عاطفية، أساساً. لكنْ، ماذا بعد ذلك؟ في "الملك لا يموت"، يجهد الممثلون الـ4 ـ نور علاء حور (السجين) وسام قطيفان (السجّان) وجوزيف شلهوب (الطفل) وكريستينا غزال (الأم) ـ في منح شخصياتهم حيويتها السينمائية. يحاولون تغليب الشخصية على الممثل، لمنع شخص الممثل من السيطرة على الشخصية، فتغلبهم انفعالية اللحظة، بدلاً من جعل الانفعال نواة أداء يرتقي بالشخصية إلى حقيقتها، ككائن بشريّ يعاني ويتسلّط ويخاف وينهار ويبطش.

لن يتبدّل الأمر كثيراً في "العصفور". مع حجّاج ـ المتمرّن على إنجاز الروائيّ القصير، بتحقيقه "الحقل القرمزي" (2015)، بعد وثائقيين اثنين عن قبور الفلسطينيين في "ظلّ الغياب" (2007)، وعن محمود درويش في "كما قال الشاعر" (2009) ـ يمتلك الممثلون ـ ريم علي (الأم) وبيسان محمد (الطفلة) وسعد الغفري (السجّان) وحسان مراد (السجين) ـ ما يُفترض به أنْ يؤهّلهم لإزالة كلّ ما يحول دون بلوغ الشخصية كينونتها البشرية، لكنّهم ـ لسطوة المناخ الإنساني في القصّة الأصلية، الذي يعجز السيناريو عن منع غلبته ـ يمثّلون أدواراً بدلاً من أنْ يكونوا أشخاصاً حقيقيين.

أما صدمة ميشيل كيلو إزاء سؤال المعنى، فتغيب عن تمثيلٍ غير معنيّ بحساسية السؤال وجوهره ومغزاه ومضمونه وتأثيراته. فالقصّة، بحدّ ذاتها، تروي شيئاً من بؤسٍ عربيّ مزمن، وهذا يحضر، وإنْ قليلاً، في فيلمي المغربي وحجّاج. لكنّ الصدمة نفسها تكاد تختفي في تمثيلٍ عاديّ، وفي بعضه شيء متصنّعٌ.

في مقابل استفادة "العصفور" من إنتاج متمكّن من مهنيّته، يتواضع "الملك لا يموت" إنتاجياً، رغم تشابههما في تشييد ديكور يكاد يكون واحداً في تقسيم السجن إلى زنزانات. ومع أنّ الفيلمين يضعان المرأة الأم السجينة في مكان واحد مع الرجل السجين (أهذه حالة السجون العربية؟ ربما)، فالتشابه في التصميم يلفت الانتباه، وهذا لا علاقة له بواقع التشابه بين السجون العربية. التصوير مختلفٌ، ولعلّه الأكثر إقناعاً، بكادراته وزواياه وإضاءاته، وبمقاربته وجوهاً وحالاتٍ (هيثم ناصر في "الملك لا يموت"، وسيباستيان ثالر في "العصفور").

رغم هذا، يصعب تجاهل أهمية "النيّة الحسنة" في إعلان موقفٍ أخلاقيّ عبر فيلمٍ، يجهد صانعه في جعله سينمائياً. هذا مجرّد انفعال. السينما تحتاج إلى أشياء كثيرة أخرى، وأهمّ.

المساهمون