على الطريق المؤدية إلى مقابر بني حسن الأثرية الواقعة في صعيد مصر، يستقر متحف حسن الشرق للفنون، وهو بناء أنيق على مساحة 1800 متر مربع أنشأه الفنان المصري حسن الشرق على نفقته الخاصة لعرض أعماله. كان كل هدفه أن يحول المتحف إلى وجهة سياحية، يستطيع الزائر من خلاله التعرف إلى نماذج مختلقة للفنون الشعبية المصرية، بعيداً عن الأشكال النمطية المتداولة التي تقدم له.
يستقبلك صاحب المتحف بهيئته البسيطة في ترحاب بالغ، ويشرح لك بهدوء مفسراً ما يلتبس عليك من هذه المشاهد المرسومة ببراعة والمستلهم أغلبها من الأساطير والحكايات الشعبية.
يُعد حسن الشرق نموذجاً استثنائياً بين الفنانين الفطريين المصريين، فقد استطاع خلال سنوات تجربته أن يفرض حضوره داخل الوسط الفني في مصر، كذلك أُتيح له الوصول بأعماله للعرض في أبرز المؤسسات الفنية حول العالم. شكل الشرق ببراعة ملامح لتجربة عصامية ناجحة، رغم تحصيله العلمي البسيط، وابتعاده كذلك عن دوائر العلاقات المعقدة التي تحكم النشاط الفني في القاهرة، فهو فنان فطري، اعتمد على نفسه في تحصيل خبرته الفنية عبر استلهامه لعناصر البيئة الشعبية في محيطه.
حكاية حسن الشرق وتجربته لا تبتعد كثيراً عن أجواء تلك الحكايات الأسطورية التي يتناولها في أعماله. هو يحب دائماً أن يروى حكايته الخاصة؛ هذه الحكاية التي يكاد هو نفسه لا يصدق تفاصيلها المدهشة. دائماً ما يعود بك إلى قريته الصغيرة في صعيد مصر، حين كانت حواديت الشاطر حسن، وست الحسن، وأبو زيد الهلالي، وغيرها من الحكايات الشعبية، تمثل مصدر التسلية الوحيد له ولأقرانه. هذه الحواديت التي كان يستمع إليها على لسان جدته راكمت في داخله مخزوناً من الصور والمفردات التي لا يزال ينهل منها حتى اليوم، وما زالت تتردد على مسامعه كلما وقف أمام تلك المساحة البيضاء ليرسم تفاصيل حكاية جديدة من حكاياته الملونة.
في ذلك الوقت كانت تسيطر على هذا الطفل الصغير رغبة عارمة في رؤية هذه الشخصيات الأسطورية. كان يود أن يشاركهم كل هذه الحكايات المدهشة. حاول حسن الشرق، كما يقول، أن يقترب من حلمه بعض الشيء، بأن يرسم هؤلاء الأبطال، ولكن كيف يرسم؟ وعلى أي شيء يرسم؟ وهو لا يعلم شيئاً عن تقنيات الرسم وأدواته. لم يتردد الفتى الصغير كثيراً، فسرعان ما لجأ إلى الصخور والنباتات الملونة مستخدماً إياها كخامات للتلوين، وإلى سعف النخيل كأقلام وفرشاة. كان يرسم على جدران البيوت وعلى الأرض وعلى أي قصاصة ورق مهملة تقع بين يديه. كان يفعل ذلك من دون أن يكترث بتعليقات أقرانه الساخرة. ظل الشرق يجمع كل ما يرسمه في صندوق خشبي صغير، وكان هذا الصندوق كنزه الثمين الذي يشعر في قرارة نفسه بأنه سيفتح ذات يوم ليخرج منه كل هؤلاء الأبطال كي يطوفوا به الدنيا، ويصطحبوه إلى عالم رحب، طالما داعب خياله.
وحدث ما لم يكن يتوقعه حسن الشرق، فقد كانت الناقدة الألمانية أورسولا شيرنيغ في زيارة لمدينة المنيا في ربيع عام 1983، وأخبرها بعض أصدقائها عن حسن الشرق، فزارته. في ذلك اليوم انتقت شيرنيغ مجموعة كبيرة من تلك الرسومات، وفاجأته بعدها بتحديد موعد لعرضها في المركز الثقافي الألماني في القاهرة. كان دخوله لقاعة العرض يوم افتتاح معرضه أشبه بحلم لم يستيقظ منه حتى اليوم، كما يقول.
تعددت معارض حسن الشرق بعد ذلك، فمن القاهرة إلى مدينة شتوتغارت الألمانية عام 1989، ثم في باريس ليعرض أعماله هناك في إحدى قاعات متحف اللوفر عام 1993، ثم السويد والنمسا وغيرها من المدن والعواصم الأوروبية والعالمية. وأنتج التليفزيون الألماني فيلماً عن أعماله وتجربته الفنية؛ هذه التجربة التي تحولت فيما بعد إلى مادة مشوقة وثرية للعديد من الأبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه المتعلقة بالفن الفطري.
وها هو الصبي الصغير حسن الشرق فوق البساط السحري الذي طالما حلم به، وها هي شخوصه المسحورة تخرج من الصندوق ليشاهدها العالم: أعين واسعة، وسيقان ملتوية، صبيان وبنات وأبطال، وجن وعفاريت وحيوانات عجيبة، كلها تمثل مفردات لوحاته ذات الطابع السهل البسيط والموغلة في الحياة الشعبية برموزها ومفرداتها المتعددة الغنية بالكتابات والألوان والزخارف.
هذه الزخارف التي يوظفها الشرق في أعماله هي نفسها التي كانت تتزين بها البيوت والجدران الطينية في الريف المصري قبل أن تقتحمه الجدران الخرسانية بهيئتها القبيحة. المثلثات والمتواليات الهندسية والنباتية، والكتابات والأحرف العربية، كلها عناصر متكررة في أعمال حسن الشرق، تطل من بينها تلك الشخوص ذات الأعين الواسعة، والأجساد الملفوفة. حسناوات الحكايات الشعبية، وأبطال الحواديت، يتجسدون هنا على مساحة الرسم. يرسم حسن الشرق فوق كل جزء من المساحة، لا يترك مجالاً للعين كي تشرد بعيداً، وعلى رغم هذا الزحام البصري الذي يميز أعماله، إلا أنها تحمل قدراً من الهدوء والسكينة والمتعة البصرية التي تستشعرها في تتبع هذه التفاصيل الصغيرة؛ هذه التفاصيل التي تتسلل إلى داخلك من دون أن تدري.