تعليقات متفرّقة يتلوها أناسٌ عديدون، فور شيوع نبأ رحيل الممثلة الإيطالية جينا لولوبريجيدا، مساء 16 يناير/كانون الثاني الحالي. بعضها غير لائقٍ، كأنْ يُقال مثلاً إنّ موتها، في سنّ متقدّمة جداً، يُفترض به ألا يستدعي حزناً، أو تعبيراً عن حبٍّ مشوبٍ بقليل من الزعل. كأنّ السنّ المتقدّمة جداً (في 4 يوليو/تموز المقبل، تبلغ 96 عاماً) تحول دون حزنٍ يليق بامرأةٍ، لها المساحة الأجمل في المشهد العام، ولها الحضور الأروع في الشاشة الكبيرة، من دون تناسي اشتغالاتٍ عدّة لها في أعمالٍ تلفزيونية، لن تتمكّن من بلوغ جماليات بعض أفلامها السينمائية.
في المقابل، ستكون استعادة سيرتها السينمائية، عبر تذكّر أفلامٍ لها، سهلة، لأنّ أفلاماً كتلك محفورة في ذاكرة فردية، وتاريخ جماعي لصناعةٍ وفنٍّ، مع أنّ لولوبريجيدا ميّالةٌ، أساساً، إلى الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي، فتنتسب إلى أكاديمية الفنون الجميلة، وتُصبح "بطلة" روايات مُصوّرة (Roman-Photo)، قبل أنْ تخطو خطوات أولى في استديوهات سينمائية، لتصوير أدوارٍ ثانوية.
سهولةُ استعادة أفلامٍ لها، غداة رحيلها، منبثقةٌ أيضاً من إبهارها كثيرين/كثيرات إزاء أدوارٍ، لعلّ شخصية إسْمِرالدا، في "أحدب نوتردام" (1956) للفرنسي جان دُلَنْوَا، الفيلم المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (الترجمة الحرفية إلى اللغة العربية: سيّدة باريس، 1831)، للكاتب الفرنسي فكتور هوغو، تبقى أبرزها، وأقدرها على استمرارية حضورٍ أصيل في وجدان وتفكير فرديين وجماعيين.
أمّا قصّة بداية نجوميتها، بعد أدوار ثانوية (1947 ـ 1951)، بفضل Fanfan La Tulipe، للفرنسي كريستيان ـ جاك (1952)، فمعروفة: "أنا غير راغبةٍ في أنْ أكون ممثلة، بل فنانة. أعمل كممثلة صامتة (ثانوية، كومبارس) كي أحصل على مال للمنزل، فقط. لاحقاً، أُمنحُ (ما أعتبره) دوراً حقيقياً. هذا لا أريده. عندها، تخطر على بالي فكرة: سأذهب إليهم، وسأطلب القمر، مليون (المقصود مليون ليرة إيطالية، بحسب عملة خمسينيات القرن العشرين). يوافقون على هذا المبلغ، وأبدأ العملَ في السينما" (2007). تُرى، كم "مليون" لاحقة ستجنيها صناعة السينما، في أوروبا وهوليوود، بفضل فنانة مهووسة بالرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي؟ تلك الفنون تُشغلها، فتنصرف إليها كلّياً، بدءاً من ثمانينيات القرن العشرين، تحديداً النحت الذي تقول مراراً إنّه المفضّل عندها: "تغيّرُ السينما التي أعطيتها نفسي سابقاً، من دون أنْ أندم على ذلك أبداً، دافعٌ إلى استعادة شغفي الأول، النحت، والاهتمام به".
الصعوبة، إزاء نبأ رحيل ممثلة وفنانة كجينا لولوبريجيدا كامنةٌ في الكتابة عنها في رحيلها، لأنّ سيرتها المكشوفة علناً معروفة، وأعمالها مُشَاهَدة، وخبرياتها مُتدَاولة، وأحوالها جزءٌ من سيرة عالَمٍ وصناعة وفنون وحياة، مكشوفٌ أمام كثيرين/كثيرات. أمّا المخفيّ في هذا، وهناك مخفيّ دائماً، فيبقى محجوباً عن الناس، وغير معلومٍ، فتستحيل الكتابة عنه. إذاً، كيف/ماذا يُكتَب عن أيقونة/أسطورة/رمز جنسي، يُقال (نقلاً عنها وعن مُقرّبين منها) إنّ خيبتها الأقسى، وربما الوحيدة، ناشئةٌ من عجزها عن لقاء "رفيق الروح"، أو ما يُعرف بـ"حبّ حياتها"، هي التي تُحَبّ دائماً، من طرفٍ واحد؟
الصعوبة متأتية من التكرار المملّ، في حالة كهذه، للمسائل المتشابهة: مقتطفات من سيرة. بعض أعمال وأفلام. مواقف وفضائح. خفايا يُظنّ أنّها حكرٌ على قلّة، بينما الخفايا الفعلية غير معلومةٍ من أحد. لكنّ حيوية لولوبريجيدا، المُرافقة لها حتّى "النَفَس الأخير"، سببٌ لتمرينٍ على كتابةٍ، تحاول اختلافاً، ولو طفيفاً. مثلٌ أول: عام 1999، تُقدّم نفسها للانتخابات الأوروبية، على لائحة السياسي الإيطالي أنتونيو دي بياترو، لكنّها تفشل في الدخول إلى البرلمان الأوروبي. هذا لاحقٌ على اختيارها سفيرةً للنوايا الحسنة، باسم منظّمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدّة، وهذا يطرح سؤالاً عن الفائدة الناتجة من اختيار نجومٍ/نجمات لمنصبٍ كهذا، أم أنّ الاختيار مجرّد حركةٍ إعلانية/إعلامية للطرفين، لا أكثر؟ مثلٌ ثانٍ: إصرارها الجميل والدائم على عيش الحياة الذي يتمثّل جانبٌ منه في زواجها، عام 2006، من خافيير ريغاو اي رافُلْس، رجل الأعمال الإسباني الذي يصغرها بـ34 عاماً. في المثل الأول، تبلغ 72 عاماً. في الثاني، 79 عاماً. هذا جزءٌ أساسيّ من مواجهةٍ وتقدّمٍ واختبارٍ وتحدٍّ. هذا جانبٌ مهمّ في حياةٍ وشخصيةٍ، يعكس براعة عيش، وجمال حضور.
اشتغالاتها السينمائية وفيرة، وبعضها معقودٌ على أسماء أساسية في صناعة السينما، إخراجاً وتمثيلاً. لكن تعدادها مملّ وغير مفيد، وتداولها في ذاكرة وأرشيفٍ كثيرٌ، رغم أنّ بعضها الأبرز مُثيرٌ لاهتمام وتنبّه ومتابعة ومتعة، وكاشفٌ لتلك الطاقة الأدائية فيها على تنويعٍ واختباراتٍ ومغامرات. وهذا، من دون تناسي أنّ السينما، بالنسبة إليها، غير ثابتةٍ في مرتبة أولى. انسحابها منها غير دائم، لكنّه أساسيّ في الفصول الأخيرة من سيرتها. اشتغالاتها الفنية الأخرى تستدعي قراءات إضافية، ومنحوتاتها دعوةٌ إلى تمعّنٍ في أشكالها ومضامينها، خاصةً تلك التي تصنع منها شخصياتٍ نسائيةٍ، تستمدّ معالمها وسماتها وأعماقها ومفاصلها من أدوار سينمائية متنوّعة لها.
أتكون هذه الأشكال والمضامين، وتلك الشخصيات النسائية المنحوتة بيديها وروحها وانفعالاتها، انعكاسا متعدّد الأنماط، لها وعنها؟