جيمس غراي (3/ 3): "ستبقى السينما معنا لكنّها ستأخذ شكلاً مُختلفاً"

06 يناير 2023
جيمس غراي: "واجبي أنْ أكون صادقاً مع نفسي" (مارتن بِرو/فرانس برس)
+ الخط -

 

(*) تجري أحداث فيلمك الأخير "يوم هرمغدون"، في ثمانينيات القرن الـ20. من الشخصيات، هناك فْرِد ترامب (والد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ـ المحرّر). هل لديك رغبة في عقد متوازيات مع أميركا اليوم؟

حسناً. أحداث الفيلم تقع عام 1980، أي قبل انتخاب رونالد ريغان. هناك أوجه تشابه واضحة، باستثناء أنّ ريغان كان نوعاً من ترامب في بدلة أكثر أناقة، أو في "توكسيدو". ترامب أحد الأعراض، لا السبب حقّاً. يبدو أنّ المجتمعات كلّها تعاني هذا المرض شبه الفاشيّ. الولايات المتحدة ليست استثناءً، للأسف. أودّ التذكير بأنّ ترامب لم يفز أبداً بالتصويت الشعبي. لكنّ الصراع لا يزال صعباً للغاية. أنظر إليه، إنّه مثل إل دوتشي أميركي. أرى في ريغان بداية هذه الفكرة. أحد الأسباب عائدٌ إلى وسائل التواصل الاجتماعي، التي مَكّنت مختلّين من منصّاتٍ لنشر خطابهم. إضافة إلى الإحباط، وعدم القدرة على فهم القوى المتعاظمة للرأسمالية، وكيف أدّت بنا إلى هذا الوضع.

القطيعة بين قوى العمل والإدارة، ونهاية التحالف غير المستقرّ أصلاً، الذي كان يُمكّن رئيس مجلس إدارة شركة من ربح 7 مرّات ما يجنيه العامل. اليوم، أصبح الفرق يُعادل 700 ضعف. هناك خَطَبٌ ما في الاتفاق الأساسي، الذي يربط المجتمع. أعتقد أنّ الانقسام والغضب، وهذه الأشياء كلّها، نتيجة عجز الدولة عن حلّ ذلك. لم نكتشف بعد أنّنا لم نعد نكافئ الناس على نزاهتهم. لذلك، تبدو تصرّفات الجميع، ودونالد ترامب مثال كلاسيكي، مرهونةً بثقافة المعاملات: "ماذا يمكنك القيام به من أجلي؟" (يُقلّد لكنة دونالد ترامب ـ المُحرّر). يصعب أنْ تكون أخلاقياً، عندما تكون المعاملات المالية وسيلتك الوحيدة لربط العلاقات. هذه الأشياء كلّها لعبت دوراً. لا شيء يأتي من لا شيء، والبذور زُرعت في الماضي.

 

(*) لن يُوزَّع الفيلم على نطاق واسع في العالم. كثيرون سيشاهدونه على الشاشات الصغيرة. ما شعورك إزاء ذلك؟

هذا مريع. لكنْ، لا يمكنني فعل أيّ شيء حيال ذلك. أنتَ تصنع هذه الأشياء، وفي النهاية، ربما يشاهدها بضعة أشخاص على شاشة كبيرة، في متحفٍ، بعد 100 عام، إذا كنتَ محظوظاً. إذا لم يفعلوا، فذلك يعني أنّ الفيلم لا يستحقّ أنْ يدوم. لا يمكنني الشعور بالحنين إلى الماضي. الأمور على ما هي عليه. يجب أنْ أخفض رأسي، وأواصل العمل. بطريقة ما، ينبغي أنْ أضع غمامتين، لأنّي إذا بدأتُ التفكير في ما تسألني حوله، فسأصاب بالاكتئاب، إلى درجة أنّي لن أتمكّن من فعل أيّ شيء.

 

(*) هل يمكنك صنع فيلم لـ"نتفليكس" أو "برايم"؟

نعم. لا سبب يمنع ذلك. 47 بالمائة من الأميركيين لديهم سينما منزلية. هذا رقم كبير جداً. لديّ سينما منزلية، إنّها رائعة حقاً. اقتنيتُ شاشة ضخمة، قياس 120 بوصة، ولديّ نظام صوت محيطي 7.1. هذا لا يعني أنّي لا أريد الذهاب إلى صالة السينما، لأنّ تلك قصّة مختلفة، تتعلّق بتجربة المُشاهدة الجماعية، وشاشة ضخمة. لكنْ، حين أشاهد فيلماً قديماً في منزلي، تمنحني الشاشة الإحساس نفسه عندما كنتُ طفلاً، أشاهد الأفلام في صالات إحياء الأفلام التراثية، باستثناء أنّه يُمكنني اليوم انتقاء الأفلام بشكل أفضل، والـ"فشار" ألذّ (يبتسم).

 

 

(*) هل تعتقد أنّ السينما، أو الفن عامة، يُمكنها تغيير الأوضاع في العالم، أو المُساهمة في ذلك على الأقل؟

أعتقد أن الـ"بيتلز" غيّرت أشياء كثيرة. لكنْ، لا أدري. لستُ أنا من ينبغي أنْ يُجيب. حتّى أنّي لا أحاول ذلك. ليس لدي أي توقّع أو شعور بأنّ عملي سيُغيّر أيّ شيء. ربما عملي مصنوع لمراهق واحد، في ضواحي باريس، يشاهد فيلماً ويتأثّر به. إنّه أمر غريب. أحبّ حضور المعارض التشكيلية، لأنّي أجدها تجربة ملهمة ومُجدّدة للغاية. أحياناً، يكون هناك عملٌ فنّي في زاويةٍ، لم أره سابقاً، لرسّام لم أسمع به قبلاً، لكنّه يؤثّر بي بشدّة. عملٌ لا أحد يعرف عنه شيئاً، لكنّه أثار مشاعري. أقصد أنّ هذا أفضل ما يمكن أن تتمنّاه لشخصٍ مبدع. هل يُغيّر العالم؟ أعتقد أنّه ربما يفعل، لكن بمقياس صغير جداً، وعلى المدى الطويل.

 

(*) هل تفكّر في مُشاهدٍ افتراضي عندما تكتب؟

لا، أبداً.

 

(*) لِمَ لا؟

لأنّي، بعد ذلك، سألبّي رغبات ذلك المُشاهد. التزامي إزاء العمل فقط. واجبي أنْ أكون صادقاً مع نفسي. لا يُمكنني التفكير في الجمهور. بالمناسبة، هناك سينمائيون لا يشعرون بهذه الطريقة، فيصنعون أفلاماً للجمهور، ولا يمنعهم ذلك من أنْ يكونوا رائعين. أظنّ أنهم يفكّرون في المُشاهد كنوعٍ من البديل لأنفسهم. أعتقد أنّ الأمر سيّان في النهاية، وأنّها مجرّد طريقة مختلفة للتعامل مع الأشياء. لكنّي لم أفعل ذلك مطلقاً. لا أشتغل بهذه الطريقة، لأني لا أستطيع مُشاهدة فيلمٍ من صنعي. ربما لديّ الآن مسافة مع أفلامي الأولى، لكنّي لا أعود إلى مُشاهدتها مطلقاً. الفكرة بحدّ ذاتها مفزعة بالنسبة إليّ. عادةً، أفكّر فقط في مدى صدقي مع نفسي. هذا كلّ ما يُمكنني فعله.

جميعنا مخطئون في مقارباتنا. أحد الأشياء العظيمة بخصوص الفنّ، أنْ لا وجود لطريقة صحيحة لفعل الأشياء. الأمر نفسه يحدث مع الممثّلين. بعضهم يحتاج إلى وقت كثير، وبعض آخر لا يرغب إلّا في القليل. البعض يعتقد أنّ للأزياء أهمية كبرى، والبعض الآخر بدرجة أقلّ. يُمكنك التكيّف طالما أنّ النتيجة نفسها.

 

(*) بعد كل ما مررتَ به، مهنياً وفي حياتك الخاصة، هل لا يزال لديك الموقف نفسه اليوم في ما يتعلّق بالأفلام، وبما تمثّله للجمهور، أم أنّ العملية أصبحت محبطة؟ هل لا تزال متفائلاً كما كنتَ قبل 20 عاماً؟

لا أعلم. الشخص الذي كنتُه قبل 20 أو 30 عاماً من الآن؟ أين هو هذا الشخص؟ هذا الشخص ليس هنا. توجد فيّ صُورٌ. لكنّ الصُور تبدو كأنّها لشخص آخر. عادة، أشعر بالحرج عندما أنظر إليها، كما يحدث عندما يبادرك شخص بـ"سبق أنْ قلتَ..."، ويكون الأمر مُحرجاً دائماً. لا يمكنني سوى أنْ ألمس تطوّر شعوري تجاه السينما، من يومٍ إلى آخر. أحبّ السينما. إنّها أعظم شكل فني صنعه الجنس البشري على الإطلاق.

هناك فكرة أردتُ التعبير عنها. كيف... (يفكّر). عندما تذهب إلى متحف ديل برادو، وتشاهد ثلاثية بوش ("جنّة المباهج الأرضية" لجيروم بوش ـ المحرّر)، تعلم أنّه كان يحاول شيئاً ما يتجاوز الفنّ التشكيلي؛ أو تنصت إلى "دير رينغ ديس نيبلنغين" (Der Ring des Nibelungen) لفاغنر، وترى سعي فنان إلى ما وراء الأوبرا. كأنّهما يحاولان، بطريقة ما، ملء الفراغ، عندما لم تكن السينما موجودة بعد، فتتأكّد أنّهما كانا ليُصبحا مخرجَين عظيمين لو أتيحت لهما الفرصة.

أعتقد أنّ رسوم كهف لاسكو عمرها نحو 38 ألف عام، وفكرة الجلاء والعتمة (chiaroscuro) تعود إلى نحو 1480، أو شيء من هذا. أي أنّ التشكيل استغرق 36 ألفاً و520 عاماً كي ينضج، تقنياً على أي حال. بينما أُخرِج أول فيلم ناطق عام 1927، في غضون 5 أعوام فقط، وأصبح لدينا محيط شاسع من الروائع السينمائية. هذا يعني أنّنا قمنا بتخزين كلّ هذه المعرفة، والشعور منذ البداية بأنّ السينما طريقة فريدة تُسجّل بها الأحلام. أرى في ذلك شيئاً لا يصدّق، وآمل أنْ يستمرّ إلى الأبد. مآله خارج عن إرادتي.

 

 

لكنْ، أعتقدُ أيضاً أنّك، حين تفكّر في أهرامات مصر، وتُخمّن: "كيف قاموا ببنائها؟ كيف فعلوا ذلك؟"، تتساءل اليوم "كيف يمكنهم الحصول على مئات الأشخاص لمدة عامين، للعمل مقابل نقود طائلة لصنع هذا الشيء". أمّا أنا، فلا أفعل سوى هذا (يلتقط هاتفه ويستعمله كآلة تسجيل ـ المحرّر): "رجلٌ وامرأة على الشاطئ. شعره أسود. إنّها صهباء. السماء مشمسة، لا تشوبها سوى سحابة واحدة، وعلى الشاطئ رمال بيضاء للغاية" (يُقلّد نهاية تسجيل الصوت، ويضع الهاتف ـ المحرّر). بينما كان صانعو "كليوباترا" (جوزيف ل. مانكيفيتش، 1963 ـ المحرّر) مُجبرين على استعمال جميع أولئك الكومبارس، بينما تتّسع فجوة الموازنة يوماً بعد يوم، بسبب تعقيد إنجاز مشهد واحد.

هل يمكنك تخيّل كيف سيبدو ذلك للأجيال المقبلة؟ بالتالي، ستبقى السينما معنا، لكنّها ستأخذ شكلاً مُختلفاً فقط، بدأ فعلياً مع صُوَر الحاسوب، وكلّ الوسائل الجديدة الأخرى. ربما لا تكون أفضل مما هي عليه اليوم، لكنْ، لا أعتقد أنّ هناك مباني أفضل من الأهرامات تُشيَّد اليوم. هناك أعمال معمارية جديدة وكثيرة في نيويورك، لكن مبنى "كرايسلر"، بالنسبة إليّ، لا يزال رقم واحد.

 

(*) تحدَّثت المخرجة نادين لبكي، هذا الصباح، في المؤتمر الصحافي للجنة تحكيم المسابقة الرسمية (الدورة الـ19، بين 11 و19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش" ـ المحرّر)، عن تهديد يتمثّل في أنّ الأشخاص الذين يرغبون في إنتاج أفلامٍ تتضمّن قضايا اجتماعية باتوا يواجهون عراقيل، كالرقابة الذاتية، أو الشلل الإبداعي، لأنّ الخوف يتملّكهم من الإساءة إلى أشخاص معيّنين. هل يمتدّ هذا الشعور إلى عمليتك الإبداعية؟

هذا ما سأقوله لك. أنا مُتأكّد من أنّه يوجد، وسيظلّ يوجد أشخاصٌ عديدون ينتقدون ما أفعله، على أساس موقف أخلاقوي يتبنّونه. تبّاً لهم، لأنّي لن ألطِّف مُطلقاً ما أصنعه، إرضاءً لهم. ليس لثانيةٍ واحدة. السبب أنّه لن يُسمح لي بعمل أي شيء آخر غير هذا. هؤلاء الناس، شرطة الفنّ الذين تتحدث عنهم، تبّاً لهم. إنهم مقرفون. هذا مُثير للاشمئزاز: كيف يمكنهم اتّخاذ موقف كهذا. الأمر يشبه اتفاق مولوتوف ـ ريبنتروب (معاهدة عدم الاعتداء بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي، عام 1939 ـ المحرّر). تطرّفوا في انتمائهم إلى اليسار، حتّى باتوا يمينيّين. أنا يساريّ الهوى. أرى في فكرة المراقبة البوليسية سلوكاً يسارياً مُزيّفاً. كيف وصلنا إلى هنا؟ إنّها وصمة عار. يجب أنْ يشعر هؤلاء بالحرج.

 

(*) هل سيكون فيلمك المقبل عن جون كينيدي؟

ربما. لست واثقاً، لأنّها مهمّة جسيمة. يتطلّب الأمر مالاً كثيراً، لأنّ الأحداث تجري في المحيط الهادئ، وتنطوي على بعض التجريد. قصّة مرعبة عن أناسٍ يواجهون الخطر بمفردهم، وسط المحيط الهادئ. لذا، يجب أنْ أتأكّد جيّداً من وضع الأمور في نصابها. لا أعرف. أرغب في تحقيقه، إنْ سنحت لي الفرصة. لكنّي رأيت تقديراً أوّلياً لما سيتطلّبه الإنتاج، وهذا يبعث على الخوف. أعلم أنّ "الفكّ المفترس" يُعتبر أسطورة اليوم. لكنّ تحقيقه شكّل تحدّياً حقيقياً لستيفن سبيلبرغ، بعظمته كلّها. الماء شيءٌ يُفترض بنا أنْ نبقى بعيدين عنه.

المساهمون