جيمس تشانس... مرآة تعكس الجاز المعاصر

23 يونيو 2024
تشانس في أمستردام عام 1996 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- جيمس تشانس، عازف الساكسوفون الأمريكي، أحدث تحولاً في موسيقى الجاز بتبنيه أسلوب "لا موجة" الذي يمزج الجاز بالروك والفن المفاهيمي، مما جعل الجاز أكثر جاذبية للجماهير الشابة.
- تشانس استلهم من الحركة الفنية المفاهيمية في نيويورك خلال السبعينيات، مطورًا أسلوبًا يخفف من النخبوية المرتبطة بالجاز ويدمج عناصر من موسيقى الروك آند رول.
- الجاز العصري يواجه تحديات لكنه يظهر أملًا في البقاء من خلال تحوله إلى أشكال أكثر تحررًا، متأثرًا بنهج "اللاموجة" الذي نادى به تشانس، مما يجعل منه موسيقيًا صاحب نبوءة بشأن مستقبل الجاز.

ما أن نستمع إلى موسيقى الجاز في الأعوام العشرة الماضية، على الأخص الفرق الناشطة في أوروبا الغربية والشمالية الاسكندنافية، حتى تعود أهمية موسيقيٍّ من زمن السبعينيات مثل جيمس تشانس إلى الظهور؛ وإن لم يكن مؤسس فرقة Contortions في عهده نجماً ساطعاً ضمن الوسط "الجازي" التقليدي، بقدر ما كان شخصية مثيرة جدل، فقد يُنظر إليه اليوم كصاحب نبوءة إزاء المآل الذي انتهى إليه الجاز هذه الأيام.

جيمس تشانس نفسه، الذي رحل الأسبوع الماضي عن 71 عاماً، كان قد أيقن مبكراً أن وسط الجاز التقليدي كما ظل سائداً في أول عهد شبابه من زمن الخمسينيات وحتى الستينيات ليس "بكأس الشاي التي يفضّل"، كما يقال. ظلّ أميركيّاً أبيض البشرة، يجاهد في شق طريقٍ كعازف ساكسوفون ضمن بيئة فنية تُمثّل بغالبيتها الثقافة الأميركية السوداء، قدّمت كوكبة من العازفين الأفروأميركيين المهرة، ممن ورثوا تقاليد "البلوز" (الأب الروحي للجاز) عبر أجيال، منهم من صانه وحافظ عليه ومنهم من طوّره أو ثار عليه.

لذا، خطّ جيمس تشانس لمسيرته مُبكراً طريقاً تُخرجه من حلبة منافسة خاسرة. كان لإقامته في مدينة نيويورك الأميركية على الساحل الشرقي المقابل للقارة الأوروبية الفضل الجليّ في إلهامه بمعالم طريقه. في فترة السبعينيات، ازدهرت نيويورك بوصفها معقلاً لتيار الفن المفاهيمي، الذي ذهب بالتعبير الفني إلى ما وراء حدود التجريد، سواء في ميدان الوسائط البصرية أو تلك السمعية. بالنسبة إلى الأخيرة، بات بإمكان الضجيج المحض أن يصبح شكلاً صوتياً وأن يشكّل الصمت المحض مقطوعة موسيقية، ليُستعاض أحياناً عن العزف على آلة موسيقية بتعابير جسدية مكتومة.

أطلِق على تلك الحركات الفنية النيويوركية، البصرية والسمعية، اسم "آفان غارد" (Avant Garde)، وهو مصطلح مأخوذ من المعجم العسكري الفرنسي للقرن التاسع عشر، يصف الطليعة التي تتقدم صفوف الجيش الأمامية، في إشارة إلى نُخب فنية تقوّض التقليدي السائد وتتصدر البحث عن الجديد، الثوري والمختلف الذي ليس من غايته الرواج، ولا يسعى إلى أن يكون سائغاً فتقبله الذائقة العامة.

انتسب جيمس تشانس إلى "آفان غارد"، من خلال إحداثه لوناً في الجاز عُرِف باسم "لا موجة" (No Wave). بغية سحب مكوّن النخبوية منه، أو تخفيفه، أضاف إليه موسيقى الروك آند رول، التي استأثرت بعموم الشباب الغربي الأميركي والأوروبي زمن السبعينيات. على غرار ما يعنيه الاسم، تحرّر الأسلوب من أي موجة أو منهج مُبقياً على كل من عنصر الارتجال المستورد من الجاز، الصخب الكهربائي المستمد من الروك والأدائية المستلهمة من العروض والفن المفاهيمي القائمة على الإيماء والتعبير الجسدي، بشكله التجريدي الذي لا يعكس نسقاً معروفاً مألوفاً.

في أغنية Contort Yourself لـ جيمس تشانس مع فريق Contortions في مقطع تسجيلي حيّ يعود إلى سنة 1979، صوُِّر خلال حفل ضمن مهرجان موسيقي في مدينة منيابوليس الأميركية، يظهر أثر موسيقى الروك بوصفها الإطار العام للأغنية، لجهة الضرب الثنائي المنتظم على طبول الدرامز والنسق النغمي المتكرّر (Riffs)، الصادر عن آلات الغيتار الكهربائي، ناهيك عن لغة جسد المغنّي خلال أدائه الأغنية التي يُحاكي بها، استعراضياً وساخراً، نجوم الروك في حقبة السبعينيات. إلا أن ثمة اختراقات نافرة ناشزة تُعارض سمات الإطار العام، تأتي من مُركّب الأصوات (Synthesiser)، لا هيئة نغمية لها ولا منطق موسيقي يحكمها، تمنع تحوّل Contort Yourself إلى أغنية روك تقليدية.

وقد أخذ الجاز التقليدي خلال الألفية الحالية في التبلور، ليس بوصفه الموسيقى الأكثر إتاحةً للارتجال والتجريب كما كانت الحال حين خاض غمارها تشانس في منتصف السبعينيات، وإنما بوصفه فناً موسيقياً قائماً على إرث ناهز عمره القرن من الزمان، بات يخسر بذلك من سحره وجاذبيته، إذ بات موسيقيّوه يدرسون في أكاديميات مرموقة، ويخوضون امتحانات صعبة ومسابقات دولية، وعليه، تمأسست معارفهم ومهاراتهم وتمعيرت مستوياتهم وتقنياتهم، الأمر الذي صار يهدّد جوهر هذا اللون الموسيقي والروحية التي أتى منها، ألا وهي الأصالة والنضارة والعفوية التي لا تنفي بالضرورة المعرفة والكفاءة والحرفية، بل تبني عليها وتوظفها في لون موسيقي، ظلّ يُنظر إليه على أنه الفضاء الأرحب للحرية والحوارية الموسيقية.

في هذا السياق، وفي مقالة بعنوان "هل قتلت الأكاديميا الجاز"، منشورة سنة 2019 في المجلة الموسيقية The Wire، عزا الناقد الأميركي آدم غوستافسون انحسار جماهيرية الجاز إلى مأسسته على يد الجامعات والمعاهد، إذ رأى أنه "منذ أن جعلت الأكاديميا موسيقى الجاز تتربع عالياً كفن رفيع، لم يعد هناك أمل بصعود في شعبيته من جديد". فالولايات المتحدة، وهي أمة حديثة العهد نسبياً، ظلّت تبحث لها عن فن يمكن أن تنسبه إلى نفسها كهوية ثقافية أصيلة، وجدت في الجاز ضالّتها، وعليه، أخذت موسيقى الجاز تتحول من نبض حياة الناس إلى منتج ثقافي مُتقن ومنمّق، مُعدّ للتصدير "صُنع في الولايات المتحدة".
 
هكذا، بات الأمل ببقاء الجاز مرتبطاً  بتحوّره إلى أشكال أكثر تحرّراً من المؤسسة الأكاديمية والتقاليد الفنية التي حوّلت الجاز إلى منتج ذي معايير، وبالتالي مسحوبة منه نكهات النضارة والعفوية والحيوية. إذ يتم ذلك عبر تلاقحه مع ألوان موسيقية أخرى عصيّة بطبيعتها على المأسسة، الروك على رأسها، فضلاً عن الموسيقى الإلكترونية، التي ما انفك وجودها يتمدّد داخل الأجناس الموسيقية الأكوستيّة المختلفة، أي تلك التي تعتمد التصويت الناتج عن الرنين الطبيعي للآلة الموسيقية في إنتاجها للموسيقى. يحاكي الجاز العصري الهجين الذي ينشط اليوم في أميركا وأوروبا نهج "اللاموجة" الذي نادى به تشانس وعمل لأجله، ليجعل منه بعدد رحيله موسيقياً صاحب نبوءة.

المساهمون