يونيكه كوبر رمبل، ولقبه الفني رمبل Remble، مُغني راب أميركي من مواليد سنة 2000. بهذا، يُعتبر الفنان الشاب ممن يُعرفون بجيل "زي"، وهي تسمية تكتفي بأول حرف من كلمة Zoomers، وتعني المُحدّقون: كنايةً عن البيئة التكنولوجية الراهنة، المُتخمة بالمعلومات والزاخرة بمُحفّزات الانتباه ومُشتّتاته على حد سواء. قد تبدو حياته، إذن، وكأنها اقترنت بقرن جديد، وكذلك هو أسلوبه في نظم الراب وأدائه؛ يُنبئ بنهج فنيّ فريد، يُبدع من القديم جديداً.
على الرغم من أنه ولد ونشأ في مدينة لوس أنجليس، على الساحل الغربي للولايات المُتحدة، وهي معقل الراب الرائج منذ قرابة العقد حتى اليوم، وهو لون خفيف مُطعّم بنكهة فنك، مُلطّف بنسمة هسبانية قادمة من جنوب القارة، إلا أنه يعتمد نظماً موجزاً مُكرراً، ومُغنّى في أغلب الأحيان. كأني برمبل اليوم يُعيد مجد الحقبة الذهبية للراب، زمان تسعينيات القرن الماضي، التي كانت قد ازدهرت أصلاً في حواضر الساحل الأميركي الشرقي، الخشنة والباردة، كنيويورك وشيكاغو، حيث أهم ما يُميّزها هو أن الشعر فيها مركزٌ، والموسيقى مدار.
أغنيته المصورة، المعنونة بـ"قابل للمس" (Touchable)، مثالٌ على تبلور أسلوبه الخاص، الذي به يُجدّد السائد عن طريق بعث القديم، إنما بصورة فردية خلاقة. فالنَظم مُسهَبٌ متين، دراميٌّ كثيفٌ، وله طبيعة سردية. إلا أنه ينسلّ داخل الإطار الموسيقي، كما لو لم يكن نظماً، وإنما حديثاً أو كلاماً منفلتاً من عِقال الإيقاع، حيث في كل مرة يُعاد فيها المقطع الأول، أو الكوبليه، يُسمع الإيقاع كما لو أنه يسعى إلى الإمساك بالنَظم من جديد، محاولاً إعادته إلى سيادة الأغنية.
أما الموسيقى فهي قليلة، تكاد لا توجد. ثمة جرس كنيسة يُقرع لمرّة واحدة، يُكرّر على تباعد زمني، مُظلّلاً مشهداً عاماً من الهول. نغماتٌ معدودات تُعزَف هنا وهناك، تتآلف بعضها مع بعض ضمن فواصل هارمونية. تُذكّر بلون آلة الفلوت، إلا أنها على الأغلب عينات إلكترونية سُجّلت من على آلة أورغ السينثاسايزر. لاحقاً، ستُضاف لمسات على آلة البيانو، بنيّة التصعيد اللوني الطفيف. إلى جانب بضعة قناطر صوتية إلكترونية والمعروفة بـ"جيوب"، مهمّتها ربط المقاطع الشعرية. بهذا، فالتصميم الموسيقي المينيمالي المُقتضب يُفسح المجال أمام النص، ويجعل من وقعه على النفس أعتى وأشد.
أما الشدّة فتأتي من وقع القصة. من خلال نظمه للراب، يروي رمبل سلسلةً من أحداث، توحي بسبْق إصرار وترصّد يسبق جريمة قتل. يستهل السرد بالتعريف عن نفسه. ثم تتوالى التفاصيل كإفادة جنائية، ترسم مشهداً رهيباً، يزداد رهبةً مع تقاطر المقاطع وتوارد الجمل، من دون اللجوء إلى تطوير حبكة درامية أو موسيقية. ترِد تعبيرات ومفردات تنتمي إلى لغة القتلة ورجال العصابات، كرمز "الساعة"، الذي يُشير إلى القناص وهو يتخذ له موقعاً، يستهدف منه الضحية. أو إحالة الهدف "نباتياً"، وتعني إرداءه جثة هامدة. حتى العنوان "قابل للمس" معناه أن المستهدف قابلٌ للقتل.
بحسب الخبير في القانون الفيدرالي للولايات المتحدة بروس ريڤيرز (Bruce Rivers)، فإن الأغنية المصورة، لو لم تكن تخلو من أسلحة نارية، واكتفت فقط بالإيحاء بحملها واستخدامها، لأمكن مقاضاة منتجيها ومنعها من الصدور والتداول. لكن الإحجام عن إظهار السلاح، ليس هو وحده ما يجعل من "قابل للمس" قابلة للعرض؛ إذ إن الأغنية تتجاوز في حدودها التعبيرية تجسيد مظاهر العنف العاري. كما أن ثمة حلولاً إبداعية تُشير إلى أن رمبل، ومخرج الفيديو- كليب نيك مدينا (Nick Medina)، أرادا تضمين العمل رسائلَ أبعد وحمولات فكرية أشد حساسية من مجرد تصوير المنسوب التحت - أرضي لعالم الجريمة.
كل من الأداء الحركي، والشحنة الانفعالية التي تصدر عن رمبل في أغلب المشاهد، لا توحي بشخصية قاتل مأجور، أو عضو في عصابة، يتبجّح بوحشيته، يتباهى بجرائمه ويتماهى معها، وإنما على العكس، إن نبرة صوته التي يشوبها القلق، وتعابير وجهه التي يعتريها الخوف، تشي بصراع يعيشه إزاء ما يرويه. تُضاف إلى ذلك لغة الجسد أثناء الإلقاء، فما خلا لقطات يُصوّب فيها قبضته باتجاه الكامير، كما لو أنه يُطلق النار، تنزع إيماءاته إلى البراءة، وتعكس رقصاته، وتعبيراته الجسدية، حالاً من الرقّة والهشاشة.
تجاذبٌ داخلي وتناقض بين النص والأداء، تُعزّزهما الكاميرا من خلال المشاهد التي ترسمها. لقطات، تبدو فيها خلفية المشهد وقد طرأ عليها تشوّه مقصودٌ، مصنوعٌ بواسطة المؤثرات الرقمية، كما لو أن اضطراباً قد ألمّ بالواقع، يوحي باختراقه. ولقطات، يؤدي رمبل فيها من على مغسلة الحمام وأمام مرآته، تظهر صورته فجأة وقد ازدوجت، أو يُطلّ أمام الكاميرا وقد لُوّنت عيناه بحمرة الدم، كما لو مسّه شيطان، أو كانه هو الشيطان نفسه.
كل ذلك يُشير إلى أن الغاية السردية من التباين بين الراب وبين مُلقيه، هي تصوير الصراع الذي تخوضه الشخصية مع شخصية موازية لها أو بديلة، أو ما يُعرف بـ"آلتر إيغو" (Alter Ego)، قوى الشر في الحياة الأميركية المعاصرة، ممثلّةً بالنص، والثانية مجسّدةً عن طريق الأداء، ألا وهي الطفولة، التي تذهب في كل ساعة وفي كل دقيقة وقوداً لشبكات الجريمة المنظمة، المدفوعة بالتمييز العرقي والتفاوت الطبقي، كل ذلك في بلد مصاب بحمّى التسلح المزمن، الذي يحميه الدستور، وتصونه المؤسسة السياسية والمصالح التجارية المرتبطة بها، والمستترة من خلفها.
"الانعطافة الرابعة" (The Fourth Turning)، كتاب مفتاحيّ صدر سنة 1992، لكل من الباحثين ويليام شتراوس ونيل هوو. فيه يعرضان نظريتهما التي ترصد دورة زمنية قائمة على أجيال أربعة، قد حددت، وتحدد تاريخ الولايات المُتحدة. بحسب الكتاب، فإن "المُحدّقين" أو جيل زي، هم "الأبطال". يولدون عند الانعطافات، يعيشون في ظل الأزمات، لا يركنون إليها، بل يعدّون العدّة لأجل وثبة حيوية تتجاوزها وتُصحّح المسار، كلّ بأدواته ووسائله. من هنا، لم يعد يكفي رمبل ومن جايله أن ينظم الراب ويسجّل الأغاني، بل صار لزاماً أن تحمل الأغاني في أشكالها ومضامينها بوادر التغيير، الفني والمجتمعي.