الصوت المرتجع، أو Feedback، هو حيلة لمنح النغمات التي تُعزَف على آلة الغيتار الكهربائي أفقاً واسع المدى اللوني والزمني، من خلال الاستفادة مما يظهر لوهلة كما لو كان علّة؛ إذ إن "فيدباك" يقع حين يمسي الصوت حبيسَ دارة متواصلة من الذهاب والإياب ما بين الآلة الموسيقية والصندوق المُكبّر.
قبل قلب العلّة إلى حيلة، كان الغيتار الكهربائي أشبه بغيتارٍ عادي جرى تزويده بمكبّر للصوت، ولئن اقتصر العزف عليه بالنقر على أوتاره، واتّسم صندوقه الخشبي بالرقة النسبية، فإن الصوت الصادر عنه سرعان ما سيخمد ولن يستمر كما هي الحال عند العزف على الآلات الوترية ذات القوس أو النفخية.
تلك الحال تغيرت مع اعتماد "فيدباك"، فأصبح بمقدور العازفين مدّ الصوت طويلاً، وبالتالي اكتسبت آلة الغيتار خاصية غنائية قرّبتها من الصوت البشري القابل للاستمرار بصورة طبيعية، وذلك بواسطة حبس الهواء في الرئتين ثم التحكم بسرعة إطلاقه عبر الحنجرة.
أحدث هذا تبدّلاً في دور الآلة الوترية، من خلال حضورها ضمن الفرقة الموسيقية، سواء أكانت جاز أم روك. إذ لم تعد مجرد أداة مرافقةٍ للغناء أو عزف تآلفات سلمية (أكوردات) وارتجالات سريعة، وإنما صوت آخر، ذو خاصية درامية، يضاف إلى صوت المغني، وقد يُضاهيه أحياناً.
ومن بين أولئك العازفين الأسطوريين الذين ضاهى لديهم صوت آلة الغيتار الممتد بحيلة "فيدباك"، الصوت البشري، لجهة القوة التعبيرية، كان البريطاني جيف بيك (1944-2023) الذي رحل في العاشر من الشهر الحالي. يدين صوت غيتاره الذي تراوح ما بين الجارح الصداح والحائر المنكسر إلى بيئة موسيقى البلوز الميلانكولية التي فيها تكوّنت شخصيته الموسيقية. من البلوز انطلق في عوالم أكثر حدّةً وصخباً كالهارد روك والبوب، إذ إن روحه الفنية ظلت باحثة ومنفتحة، قابلة لاستيعاب الخبرات ومقبلة على التجارب.
ذلك ما ميّزه عن أيقونة موسيقية بريطانية أخرى على الغيتار الكهربائي هو إيريك كلابتون الذي انتهى به الأمر إلى أن تنازل عن موقعه ضمن فريق "ياردبيردز" لجيف بيك. كان كليبتون أشدّ محافظة ولم يرق له توجه الفرقة نحو اعتماد لونٍ أقرب إلى البوب وأبعد عن البلوز. بالنسبة إلى بيك لم يكن ذلك التوجّه سوى تحدٍّ، عله يأتي عليه بفرص التجريب والتجديد والابتكار. يبدو ذلك جليّاً في أغنية كـI'm a Man للفرقة، إذ يسعى من خلال مقطعه المنفرد إلى كسر المحرمات والذهاب بأوتار الغيتار إلى غياهب التشوش والضوضاء.
هكذا، وبموجب توصية من صديقٍ مشترك، أسطورة بريطانية أخرى في عزف آلة الغيتار الكهربائي جيمي بيدج، أتى احتضان "ياردبيردز" لجيف بيك كنقطة تحوّل أسلوبية لم تتوقف تداعياتها عند إنتاج الفريق، وإنما تجاوزته لتؤثر بمشهد الروك والبوب على صعيد بريطانيا والولايات المتحدة، ليُسمع صوت غيتاره، منتصف ستينيات القرن الماضي، خلاقاً فريداً. في أغنية Heart full of Soul، يتوصل إلى لون يُحاكي من خلاله صوت آلة السيتار الهندية، والمحورية في موسيقى الراغا التقليدية التي أخذت تشيع في الغرب بين أحرار العقد من الشباب.
استمر أثر الموسيقى الهندية على موسيقى الروك حتى السبعينيات. اتصل حضورها بالرحلات الطقسية الماورائية التي تبدّل حالات الوعي والإدراك، فتمهّد إلى الوقوع في حالة أشبه بالسكر الموسيقي. من خلال موجة روك الهلوسة، أو الروك السايكاديلي (Psychedelic Rock)، أصبح بيك، ضمن فريق "ياردبيردز"، مسلحاً بسحر "فيدباك"، وانفتاحه على التجديد والتجريب، من أهم الأصوات الآلية التي أطلقت الشرارة الثورية. منها، ولدت موسيقى لم تعد تقتصر على الدعوة إلى الرقص أو القفز، وإنما تخترق حدود الاستمتاع إلى السماع الخبروي، وتحض على التنقيب في السبيل إلى ذلك، عن مصادر لونية وأسلوبية غير مألوفة.
بما أن كلّاً من التجريب والتجديد ظلّا المحفّزين الأساسيين لمسيرته الفنية، لم يكن خروجه على الروك بنكهته السايكاديليّة سوى مسألة وقت. بداية السبعينيات وحتى الثمانينيات، وبعد سلسلة من التعاقدات والانفكاكات مع فنانين آخرين على الساحة، أخذ ساحر "فيدباك" يتجه نحو مزج الروك بالجاز، الأمر الذي جذبه إلى حقل موسيقى آر أند بي ونجمه الساطع الأميركي ستيفي وندر. في أغنية وندر الخالدة Superstition، تلتقط الأذن صوت غيتاره من خلال مقطع منفرد، عقب مداخلات أبواق النفخ وهي ترافق صوت وندر. هنا أيضاً، لا يكتفي بأنماط البلوز التقليدية، وإنما يشحنها بحذلقات خدع ما يُعرف بالتقنية الموسّعة Extended Technique.
آخر مغامراته الفنية لم تقل غرابة وفرادة عن سابقاتها، وإن لم يكن السياق فنياً صرفاً هذه المرة. في غمرة الفوران الإعلامي الذي رافق النزال القضائي المصوّر والمنقول على الهواء بين الزوجين السابقين، آمبر هيرد والنجم الهوليوودي جوني ديب، أطلق بيك مع الأخير، بدور مغنٍّ هذه المرة، تعاوناً موسيقياً، سُجّل ضمن بيئة الاستديو، وعنوِن بـ"18". طغت أخبار بطل "قرصان الكاريبي" ومناكفاته مع شريكته السابقة من على قناة يوتيوب على شريكه الموسيقي عازف الغيتار.
على الرغم من أن الاتفاق على إنتاج الألبوم كان قد سبق ضجيج ديب وهيرد بأكثر من عامين، الأمر الذي برّأ ساحة بيك من استثمار القضية بغية جذب الأسماع بعد طول غياب، فإن التعاون ظل جدالياً، ولم يقدّم موسيقياً الشيء الكثير، سوى من خلال أغنية This Is a Song for Miss Hedy Lamarr.
"مافريك" (Maverick) اسمٌ يُطلق ثقافياً على الفرديات المتألقة التي تتصف مسيرتها بالسعي المستمر إلى الخروج على الجمعيات المتأصلة، أي ذاك الأديب، الفنان أو الموسيقي الذي هاجسه هو الاختلاف الدائم عن السائد، والتجذيف عكس التيار الثقافي والحقبوي، واستفزاز الذائقة العامة. لعل لقب "مافريك" يليق بجيف بيك. لهذا، ورد في عنوان المقالة التي نعت بها صحيفة ذا غارديان البريطانية "ساحر فيدباك البريطاني".