يجسّد "فقدتُ جسدي" (2019)، لجيريمي كلابان (47 عاماً)، المزج المثالي بين الواقعية واللّمسة الغرائبية لسرد قصّة نوفل، وهو شاب من أصل مغربي، يعاني في باريس من صعوبة التكيّف مع وضع معيشي قاسٍ، بعد تيتّمه صغيراً في المغرب، وتعرّفه إلى غابرييل صدفةً، ويُغرم بها. لكنّ القدر يخبّئ له محناً أخرى، تُكتشف بالتوازي مع اختبارات تواجهها يدٌ تتقدّم بين أزقة باريس وصخبها، بحثاً عن بقيّة الجسد.
رهانٌ حكائيٌّ مجنون، ينطوي على حسّ مجازفة فائق لا يمكن ترجمته إلى الشاشة سوى بالتحريك، واختيار سردي يخلق المعنى من التبعثر بشكل متدرّجٍ وساحر، كلعبة "بازل"، من دون تناسي أهمية التصوّر الرسومي الخلّاق للفيلم، الذي أضفى شعرية حالمة تارة، ومشاهد توتّر وحركةٍ تارةً أخرى، ليضع المُشاهد في قلب ملحمةٍ قاسيةٍ في تأثيرها عليه، لكنّها تنطوي على طرحٍ مغرق في الإنسانية، فحواه الإصرار على الانبعاث من رماد الصعوبات، والتأقلم مع إيقاع القدر بحلوِّه ومُرّه.
حصل "فقدتُ جسدي" على جوائز عدّة، كـ"الجائزة الكبرى لأسبوع النقّاد" في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ"، و"كريستال" أفضل فيلم طويل في الدورة الـ43 (10 ـ 15 يونيو/ حزيران 2019) لـ"المهرجان الدولي لفيلم التحريك في آنّسي"، قبل ترشيحه لـ"أوسكار" أفضل فيلم تحريك (2020)، ويظفر بجائزتي "سيزار" أفضل فيلم تحريك وأفضل موسيقى لدان ليفي، في النسخة الـ45 (28 فبراير/ شباط 2020). لكنّ أزمة كورونا قطعت حياته في المهرجانات، ليبدأ مسار المُشاهدة بشكلٍ أوسع، عبر المنصّة الأميركية "نتفليكس"، قبل أن تُتاح لجيريمي كلابان فرصة لقاء الجمهور، في الدورة الـ19 (11 ـ 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"المهرجان الدولي لسينما التحريك بمكناس"، بإلقائه "ماستركلاس" بشكل سخيّ وجامع، عن تجربة خلق فيلم تحريك، بكلّ تفاصيلها ومعطياتها الجمالية والتقنية الدقيقة.
في ما يلي حوارٌ أجرته "العربي الجديد" معه.
(*) كيف انطلقت في العمل على رواية "يد سعيدة"، منتهياً بسيناريو "فقدتُ جسدي"؟
في عملي كمخرج، أشتغل على قصصي الخاصة. هذه المرّة الأولى التي أتلقّى فيها قصةً، يتعيّن عليّ تحويلها إلى صُوَر. لم تكن لديّ أي خبرة في عملية الاقتباس. قلتُ لنفسي بسذاجة: "الأمر بسيط. لديّ كتاب، ويكفيني ربما أنْ أجمِّع أفضل عناصره، للحصول على الفيلم بشكل طبيعي". لكنّي ارتكبت خطأ كبيراً، حين كتبتُ نسخة سيناريو تحتوي على كلّ مقاطع الرواية، التي نالت إعجابي، إضافة إلى مَشاهد حركة، من دون أنْ أطرح الأسئلة المهمّة على نفسي: عمّا يتحدّث الفيلم؟ ما وراء كلّ هذه القصة ومنعرجاتها؟ ماذا تقول القصة في العمق؟ أفرطتُ في الثقة بالرواية، وشرعتُ في كتابة السيناريو بغباءٍ بعض الشيء.
لم تكن النسخة الأولى من السيناريو مثيرة للاهتمام، بطبيعة الحال. كانت مجرد صُورٍ توضيحية للرواية على شكل فيلم. لم أقم بتملّك البعد السينمائي للرواية، حين لم أقم بتخيّل كيف يُمكن للسينما أنْ تنفذ إلى ثنايا قصة كهذه. في مرحلة معيّنة، وبتشجيع من المنتج، قرّرتُ اعتبار أنّ الرواية غير موجودة. كأنّي استيقظتُ ذات صباح مع فكرةٍ عن يدٍ تتقدّم بين الصعوبات، نكتشف بفضلها حكاية إنسانٍ. أردتُ أنْ يختبر المُشاهد القصة فعلياً عن ارتفاع اليد، وأنْ يُقذَف به في اليد ليرى العالم بنظرتها.
كان هذا التحدي في البداية. عندما تقرأ الرواية، ليس سهلاً أبداً رؤية ذلك فوراً، لأنّها تبدأ مع نوفل عندما كان صغيراً، ولا تدخل اليد على الخطّ إلّا في منتصف القصة. بينما يُستهلّ الفيلم مباشرة باليد، التي تمنحه عنوانه: "فقدتُ جسدي". وأيضاً، اليد تقود القصة بأكملها، وتقرّر كيف سأضع الكاميرا، وكيف سأقوم بتوليف المَشاهد بطريقة مُجزّأة للغاية.
هذا أهمّ ما نتج عن قراري خيانة الكتاب، وإزالة كلّ ما هو غير ضروري فيه، بالتركيز على شخصية اليد. صحيح أنّي أعدتُ كتابة السيناريو كثيراً، مع غيوم لوران في البداية. لكنْ، كان عليّ الإفلات من الكتابة بالاشتراك مع المؤلّف، لأنّي كنتُ محتاجاً إلى التّحرّر من الرواية. أنْ أقوم بهذا العمل بمفردي، كي أتملّك القصة حقاً، ويعود بعدها غيوم، في مرحلةٍ ثانيةٍ، ليناقش معي القرارات التي اتّخذتها، فيعزّز من قوّة بعض الحوارات، ويُضفي المزيد من الحياة على مقاطع معيّنة من القصة. لكنّي تكفّلت فعلاً بجُلّ العمل على إعادة تشكيل الكتابة وصوغها، للحصول على متنٍ سينمائي حقيقي.
(*) عند مشاهدة الفيلم، شعرتُ أنّ اعتمادك على نمط سردي مبعثر على محاور زمنية عدّة من أهم قراراتك في الإخراج. ليس سهلاً أنْ تثق في قدرة الجمهور على تتبّع القصة واستيعابها مع هذا الاختيار.
في الواقع، هناك في الرواية أصلاً مُسوّدة لهاتين القصتين المتوازيتين. لكنْ، صحيح أنّهما ليستا متشظّيتين كما في قصة الفيلم. هناك اليد التي تفرّ من المشرحة، وقصة نوفل بالتوازي معها، ثمّ يلتقي الخطّان في النهاية. لدينا هذا قليلاً في الرواية. لكنْ، منذ اللحظة التي اخترتُ فيها اليد، واليد فقط، باعتبارها الشخصية الرئيسية، كان لا بُدّ من استنباط كلّ قواعد التصوّر السينمائي من ذلك. حتّى مونتاج الفيلم، كان ينبغي أنْ يُنجز كقطعةٍ من شيء أكبر. نكون تائهين للغاية في بداية الفيلم، لأنّ أمامنا محاور عدّة: الماضي والمستقبل، ثم الحاضر، ويختلط الأمر علينا بينها. لدينا أيضاً بعض مَشاهد الـ"فلاش باك"، حيث لا نعرف حقاً أين نحن. كقطع "بازل" لقصة مبعثرة، وتدريجياً، مع اقتراب اليد من جسدها، تجد كلّ هذه القطع، على التوالي، معنىً، وتقترب بعضها من بعض لتتداعم في ما بينها، مُكوّنةً شخصيةً، وكذلك قصة وسرداً.
كان رهان الفيلم برمته ألا يَضيع المُشاهد في أول 20 دقيقة، عندما يكون كلّ شيءٍ فوضوياً، وأنْ يحسّ متى يبدأ الفيلم حقاً. بالنسبة إليّ، يبدأ الفيلم بمشهد الهاتف الإلكتروني (عندما يأتي نوفل ليسلّم البيتزا لغابرييل، فيتواصل معها صوتياً من باب العمارة، قبل رؤيتها للمرة الأولى ـ المحرّر). مشهد من 7 دقائق كاملة من الزمن الحقيقي، يجري في الحاضر. إنّها المرة الأولى التي نعرف فيها أننا في زمن المضارع، فنعلم عندها أنّ هذا المشهد مهمّ، لأنّ كلّ الأفعال التي سيقوم بها نوفل لاحقاً ستترتّب عنه.
(*) عملية تصميم الجانب الرسومي للفيلم تمزج التحريك مع لقطات حقيقية. كيف نشأت فكرة الجمع بين رسوم ثنائية الأبعاد، وأخرى ثلاثية الأبعاد، تخصّ الهيكل الأولي، لإعطاء هذا الجانب الخام للفيلم؟
منذ البداية، ما إن انكببتُ على معالجة الرسوم، حتى تبيّن لي ضرورة الحصول على نوعٍ من الواقع المرسوم. واقع تصويري، نوعاً ما. كنتُ أعلم أنّي لا أتوفّر على ميزانية مرتفعة تكفي لصنع الفيلم بالاعتماد الحصري على تقنية ثلاثية الأبعاد، أي مع تنفيذٍ وخلفيةٍ ثلاثية الأبعاد، وكلّ التكنولوجيا المرافقة. كلّ شيء ممكن تقنياً، لكنّي كنتُ أعلم أنّي لا أتوفّر على ما يكفي من المال للقيام بذلك بشكل متقنٍ، كما يفعلون في "بيكسار". أعتقدُ أنّي كنتُ سأفقد الكثير من الشِّعر، بإضافة تفاصيل ثلاثية الأبعاد.
كان هذا اتّجاهاً لم يسبق لي أنْ سَلَكتُه في أفلامي القصيرة، حيث كنتُ أعرف دائماً كيفية العثور على الجمالية المناسبة. شيء ما يحمل على عاتقه جمالية الفيلم. لكنّي لم أسعَ يوماً إلى إنجاز ثلاثية أبعاد "تكنولوجية"، بل أنْ تكون التقنية فعّالة بالنسبة إلى مفهوم الفيلم، وهدفي منه. أنْ تعمل الرسوم فعلياً في هذا الاتجاه.
من أجل هذا الفيلم، كنتُ أرغب في الصلابة التي تمنحها ثلاثية الأبعاد للمساحات. هذا يعني أنّها تسمح لي بالحصول على منظورات حقيقية، وبالشعور بأنّنا ننوجد فعلاً في نفق مترو حقيقي، لأنّ المنظورات تبدو مشوَّهة، ونشعر بالتالي أنّنا منغمسون في وجهة نظر اليد، وأنّنا وسط واقع مرسوم. لكنّي رغبتُ، إضافةً إلى ذلك، في الجانب التصويري للرسم ثنائي الأبعاد. طاقة الرسم اليدوي، وأيضاً النواقص التي ينطوي عليها، وخطوطه الخشنة. خاصة أنّ هناك حوادث في الفيلم: فقدان اليد، وحادثة والديّ نوفل، إلخ. أردتُ الحصول على خطوط مُهتزّة وعشوائية، تُترجم جانب الحادثة المتأصّل في القصة، وخشونته وطابعه الخام. أنْ تتقبّل الإدارة الفنية العيوب التي تجعل الفيلم إنسانياً في نهاية المطاف. تلك العيوب الطفيفة في الخطوط، أو الخطوط غير المتوقّعة، التي لا تُنتَج من عملية حساب ينجزها الحاسوب، بل تُقرّرها يدٌ بشرية، ما يجعل الفيلم أكثر إنسانية في مظهره.
أعتقدُ، كمُشاهد أولاً، أنّ الحمولة الشعرية للرسم، وإنْ كان مرتبكاً قليلاً أحياناً، أجمل من أي منتوج ثلاثي الأبعاد، مُتقن الصّنع. أحبّ رؤية الإنسانية وراء الرسم، وأجدها مشحونةً بالشِّعر أكثر من أي تقنية ثلاثية الأبعاد.
(*) في الـ"ماستركلاس"، ذكرت ساتوشي كون، أحد أساتذة الإيقاع في أفلام الرسوم المتحركة، في تصوّري، لقدرته على التّحول من مَشاهد تأمّلٍ إلى أخرى يعرف كيف يزرع فيها بذور التوتر أو الحركة، وهذا أجده في فيلمك أيضاً. كيف اشتغلتَ على إيقاع الفيلم؟
التسليم بأنّ مفهوم الفيلم يقوم على تتبّع حركة اليد كان له بعدٌ ملحميٌّ. كنتُ أعلم أنّ عليّ أخذ هذا البُعد في الاعتبار، لكنّي علمتُ أيضاً أنّ لديّ شيئاً آخر، أنّ هناك بُعداً وجوديّاً، وأنّ قصة الفيلم نفسها تضفي الشرعية على مزيجٍ من الأنواع. لذا، تعيّن عليّ اعتماد فوضى من الأنواع: الحركة والتوتر، وأيضاً العاطفة والشعور الرومانسي. نحن نعانق مصير شخصية نوفل، وهناك كلّ التعقيد في حياتها. مكّنتنا اليد من عيش كلّ ذلك بطريقة مضاعفة، أي أنْ نجعلها تمرّ في كلّ تلك المشاعر، ويتضاعف إحساسنا بالمشاعر بحكم أنّ اليد صغيرة الحجم، وفوق كلّ شيء ضعيفة.
من ناحية أخرى، كان الأمر مُمتعاً جداً، بالنسبة إليّ كمخرج، أنْ أتمكّن من العمل على مَشاهد الحركة، وهذا لم أجرّبه إلا نادراً في أفلامي القصيرة. كان جيداً العمل على مشهد حركةٍ صرفةٍ، حيث ينبغي عليك استيفاء كلّ مفاتيح فيلم الإثارة، وإعداد التسلسل الخاص بالتأثيرات، وجرأة وضع أصوات غير واقعية، والذهاب بالأشياء إلى أقصاها، وفي الوقت نفسه، أنْ تكون قادراً على إنزال الإيقاع في مَشاهد أخرى، وجلب المتفرّج إلى شعورٍ جديد تماماً، يحتاج بعض الوقت لتوطينه. كنتُ ما إنْ أملّ من الاشتغال على مشهد حركة، مثلاً، حتى أنتقل إلى العمل على مشهد رومانسي. وعندما أسأم من الرومانسية، أتحوّل إلى مشهد حركة خالص. هذا ممتع للغاية.