منذ رحيل المُغنية الفرنسية جولييت غريكو (1927-2020 ) قبل أيام، يعيش الجمهور الفرنسي على وقع هذا الخبر الصادم والمُبكي في آن واحدٍ، بعد سنوات مديدة، ظلّت فيها المُغنية جولييت غريكو، تتربع على عرش الأغنية الفرنسية الحديثة إلى جانب كل من جاك بريل وشارل أزنافور وروبير ديسنوس وسواهم من المُغنين الذين وسموا الأغنية الفرنسية، بالتجدّد والذيوع والانفلات من مُختلف التنميطات الفنية والقوالب الموسيقية.
جاءت أغاني جولييت إبان الستينيات وكأنّها فتحٌ جديدٌ داخل الأغنية الفرنسية وقد تخلت عن بعضٍ من رومانسيتها الكلاسيكية، صوب أغانٍ مُتحرّرة من سُلطة الآلة والنموذج الغربي. الأمر الذي شكّل مُفاجأة للوسط الفرنسي، بالنسبة لفتاةٍ تربت داخل أسرة برجوازية عريقة من أبٍ كورسيكي وأمٍّ فرنسية، رغم أنّ علاقة والديها لم تدُم طويلاً، إذْ سرعان ما ستنهار وتتفكّك لحظة اعتقال والدتها في صفوف المُقاومة الفرنسية وتستمر حياة جولييت غريكو وحيدة، تارة في بيت جدتها وتارة أخرى في شارع السان جيرمان دي بري، الذي غدا بمقاهيه وحاناته وطناً جديداً لها رفقة جيل بأكمله من فنانين وممثلين ومغنين وكُتّاب وفلاسفة أشهرهم جان بول سارتر، الذي شجعها على الاستمرار في الغناء وآمن بقدرتها على أنْ تغدو يوماً، أيقونة للأغنية الفرنسية، نظراً لموهبتها، التي تجسدت على مستوى الصوت وأداء الجسد وقوّة الفكر وسجالاتها اليوميّة مع هؤلاء الفنانين والفلاسفة في هذا الحي الشهير، الذي خرجت من رحمه كل التيارات الفكرية والغنائية.
واستمرت تطرق باب الثورة على مستوى التجريب الغنائي من خلال أغنية أولى ألفها لها سارتر.
ورغم مظاهر الإعجاب التي تبدت بين الطرفين، ظلّ سارتر المُساند الرسمي لمسيرة جولييت الفنية في عدد من سهراتها وجولاتها الفنية. كما أنّ التأثير الفكري بدا واضحاً في تجربة جولييت الغنائية بعد رحيل سارتر، إذْ إنّ أغانيها لا تكاد تخلو من نفحة وجودية، تُغذيها كُتب سارتر مع بعض الاختلافات والمفارقات الأنطولوجية داخل تجارب بعض الفنانين الفرنسيين الذين تبنوا تيار الوجودية في الفنّ الموسيقي للتعبير عن قلقهم وهواجسهم وشواغلهم اليوميّة، عبر أغانٍ مُضمخة بجرح المرحلة وبأسئلة قلقة عن مستقبل الإنسان ومصير فردانيته وحريته، منذ ثورة الطلاب الباريسية، وما كرسته من إبدالاتٍ هامة على صعيد الفنّ الغنائي الذي كان أكثر الفنون تأثيراً بهذه الثورة، التي تسربت من داخل مدرجات الجامعة صوب الشارع ومنه إلى المسارح.
وبما أنّ غريكو كانت المُغنية الوحيدة آنذاك في فرنسا، ممن آمنت بقدرة الفكر وسجالاته على تحرير مُخيّلة المُغني وتطويعها في خدمة الإنسان وقلقه، جعلت من تجربتها مختبراً لحداثةٍ غنائية مُبكرة، أشبه بنهرٍ تلتلقي فيه جميع الروافد المعرفية والموسيقية والغنائية، التي كانت موضع سجالٍ سياسي واجتماعي في فرنسا، منذ أواخر ستينيات القرن المنصرم. خصوصا أنّ نجم غريكو بزغ في وقت بدت فيه فرنسا وكأنها تنزع عنها عباءة القرن التاسع عشر، مُتطلعة بعنفوان إلى التحرّر داخل فضاءاتها العمومية من ملامح وأشكال غناء العصر الحديث والدخول في حضن عالمٍ فرنسي معاصر، سيشهد غلياناً فنياً من خلال الثورة عل كلّ قديمٍ داخل الفنّ والبحث عن منافذ جمالية أخرى وقوالب موسيقية وغنائية جديدة، رغم أنّ هذا القديم ظلّ حاضراً في أبهى صُوَرِهِ وبشكل نوستالجيّ داخل بعض أغاني جولييت، لكن وفق توليف معاصر، مُتحرّر قليلاً من قوّة الآلة وضغط الإيقاع، إلى أغانٍ تمتزج فيها خفة الآلة مع عذوبة الصوت والكلمة وإيقاعٍ هادئ وقد تخلى هو الآخر عن موروثه.
خلف رحيل جولييت ألم كبير في وجدان كلّ من أحبّ حياة جولييت غريكو الفنية، لكنها في نفس الوقت أثارت جدلاً قوّياً داخل الإعلام الفرنسي حول ما إذا كانت غريكو، آخر مسمار يُدق في نعش الأغنية الفرنسية المعاصرة الآخذة في الاستسهال والابتذال، بعد مجدٍ باهرٍ ميّز ريبرتوارها التاريخي برموزٍ وأعلامٍ، جعلتها مُحبّبة من لدن المُستمع عبر العالم.