تعود شبكة HBO إلى زمن أسبق بقليل، عبر مسلسلها الوثائقي الجديد المقسم على جزأين George Carlin's American Dream، بواقع ساعتين لكل جزء، بفيض من الذكريات الصاخبة والصور الحية، لشخص كان لديه كثير ليقوله من على خشبته التي أرساها بعيدًا عن أرثوذكسية اليسار، بقدر بعدها عن أرثوذكسية اليمين المتطرف.
الوثائقي الجديد، كما هو واضح من عنوانه، يتناول سيرة حياة الفنان والمؤدي الكوميدي الراحل جورج كارلين (1937 - 2008)، صاحب الآراء المثيرة للجدل في عصره، والكوميدي الأكثر تأثيرًا على فن ستاند أب كوميدي، كما نعرفه اليوم، عبر طرح يتجاوز مفهوم البيوغرافي، ليقدم نماذج راهنة، ترتبط بشكل أو بآخر بآراء الكوميدي الراحل حول مواضيع سياسية واجتماعية وبيئية عدة، أو تكهنات وتوقعات، يبدو أنها أثبتت صحتها مع مرور الزمن، وأخرى يحذر الوثائقي من أنها على الأبواب.
يقدم مخرجا العمل، جاد أباتاو، ومايكل بونفيليو، أصغر تفاصيل حياة كارلين الشخصية عبر المسلسل، كإهدائه لأخيه بطاقة معايدة، تخرج منها شاهدة قبر والدهما، وتحتها يضيف كارلين: "للأيام التي تشعر فيها بالسوء". حادثة يرويها شقيق كارلين مع كثير من الضحك، متجنبًا ذكر أحداث طفولتهما السيئة مع الوالد الوحشي، مركزًا اهتمامه فقط على أيام أجمل، أمضاها كل من الشقيقين في السباحة في نهر تصب فيه قاذورات الصرف الصحي، أو نشأتهما في حي "هارلم البيض" في نيويورك، قريبًا من المشهد الثقافي النخبوي، لمعرفته عن كثب، وبعيدًا عنه بما يكفي لعدم الانخراط فيه.
يروي الوثائقي أيضًا انضمام كارلين للدفاع الجوي الأميركي، وتسريحه المبكر منه على خلفيه عدم انضباطه. ويوثق محاولاته العديدة والفاشلة للالتحاق بركب الإنتاج التلفزيوني، كممثل وكوميدي ناشئ، متيحًا لكارلين نفسه فرصة التحدث عن نفسه، إذ تغصّ الساعة الأولى من الوثائقي بكلمات كارلين عبر تسجيلات ومقابلات فيديو، متحدثًا عن تجربته الشخصية وعن عائلته وحياته المهنية في مراحلها المبكرة. ويستشهد المخرجان بشهادات عدد من نجوم العروض الكوميدية ومنتجيها، كـ كريس روك، وبيل بور، وجيري ساينفيلد، وستيفن كولبير، وجون ستيوارت، فضلًا عن أولئك الذين عرفوا كارلين حقًا؛ شقيقه باتريك وزوجته الأولى بريندا وابنته كيلي.
يرسم الوثائقي، عبر جزأيه، قوسًا من الانكسارات العديدة، وكذلك الانتصارات الهائلة في حياة كارلين؛ فينتهي الأول منه بإدراك الكوميدي الشاب أنه بات مرفِّهًا عن جمهور من الرجال والنساء في سن الأربعين، وهم يخوضون معارك مع أولادهم الذين كانت لهم معارك الحريات المدنية في الشارع. أراد كارلين بالطبع أن يكون على الضفة الأخرى من المعركة، لذا تخلى عن كوميديا البرليسك وعروض النوادي، وانتقل من "ربطة العنق والبدلة الرسمية" إلى مظهر الشاب الهيبي ذي الشعر الطويل والجينز والأقراط، كما أراد أن يكون دومًا.
يظهر الوثائقي تداعيات تلك النقلة النوعية على حياة كارلين المهنية والمادية، إلى الحد الذي كاد فيه أن يخسر ملكية منزله إثر تخلفه الضريبي. ويبدأ الجزء الثاني بتحدي كارلين للجمود الذي اعتراه خلال الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، بأفكار جديدة ومقاربات مختلفة تتناول المجريات السياسية والاجتماعية، وكذلك محاولاته المستمرة للتخفيف من الضائقة المادية التي عانى منها حتى رحيله تقريبًا.
أما الساعة والنصف الأخيرة من الوثائقي، فتصور كارلين كما نعرفه؛ صاخبا، ناقدا وساخرا من كل ما هو محظور، مستهدفا للسياسيين اليمينيين والليبراليين وللأديان على اختلافها، متمردا على الأنظمة والمؤسسات، وعلى الحروب التي شنتها أميركا، ومنها حربا فييتنام والعراق. كانت السلطة، بكل أشكالها، عدوه الأول: "تجربتي الشخصية مع السلطة هي المعارضة"، يكمل كارلين في تسجيل له: "ليس التشكيك في السلطة فحسب، بل معارضتها بنشاط، ومحاولة إحباط ما يدور في ذهنها".
أعاد كارلين، عبر الثمانينيات والتسعينيات، تقديم نفسه بشكل أكثر صدقًا وشجاعة؛ فظهر كممثل عن الثقافة المضادة، مدافعًا عن حق الإجهاض وعن قضايا المثلية الجنسية، وعبّر عن حبه الصريح للمخدرات، خصوصًا الماريجوانا والكوكايين. يخبرنا مدير أعمال كارلين، جيري هامزا، عبر الوثائقي، أن الجمهور كان يرمي للكوميدي الشاب سجائر الماريجوانا الملفوفة على الخشبة بدلًا من الورود، وكان كارلين يلتقطها في كثير من الأحيان ليأخذها معه إلى المنزل من دون خجل.
إن اقترابه من الجماهير، وقدرته اللغوية الهائلة، إلى جانب منطقه العقلاني في مقاربة المواضيع من دون التفاف حولها، جعلته متحدثًا موثوقًا به لدى الجماهير، وأعطته مجالًا أوسع للتعبير عن نفسه وعن أفكاره بلغة، على الرغم من كونها "فاحشة"، إلا أنها لم تسبب إزعاجًا حتى للمحافظين من جمهور كارلين. على الرغم من القوانين الصريحة التي كانت تحظر البذاءة، لم تلتفت الرقابة إلى كارلين، إلا عندما تقدم رجل محلي بشكوى لهيئة الاتصالات الفيدرالية الأميركية، حول روتين كارلين الأشهر؛ "الكلمات السبع القذرة"، الذي كان يبث على المذياع.
يرافق صناع الوثائقي كارلين في رحلته الطويلة لنحت وتطوير أسلوبه الأدائي والتأليفي، محاولات أفضت إلى أن كارلين الجديد صار أكثر مرونة باستخدام جسده وتعبيراته الوجهية والصوتية أيضًا، متكئًا هذه المرة على براعته المذهلة في التقليد وخلق الشخصيات.
والأهم من كل ذلك، أنه أعطى الأولوية الكبرى لمادته المكتوبة، فلم يمض وقت طويل حتى أدرك الرجل أنه ليس مجرد ممثل وكوميدي فحسب، بل كاتب ومؤلف ومجدد على مستوى النكتة والفكاهة والتهكم، وأصبح أكثر كثافة وجرأة، وأكثر هوسًا بالشعر والمعاني، وبتأثير اللغة على الفكر، وعلى صياغة رؤية العالم لدى صاحبها.
كان من الواضح، وربما من الحكمة أيضًا، أن الوثائقي يتجنب عرض الحرب الشعواء التي يخوضها كل من الليبراليين والمحافظين على إرث كارلين ونتاجه الكوميدي والفلسفي، كما يتخطى الحديث عن حرية التعبير في الكوميديا، وعلاقتها المضطربة اليوم بالصوابية السياسية، حتى أنه يتفادى عرض واحد من أكثر المقاطع شهرة لكارلين، وفيه يتحدث عن "اللغة الناعمة"، التي كان يروج لها آنذاك، بوصفها أكثر مراعاة وحساسية للجماعات المهمشة من المجتمع، ويبتعد عن الأخذ بآراء نجوم الكوميديا المعروفين بانتقادهم للصوابية السياسية ولثقافة الإلغاء على وجه التحديد، مثل ديف شابيل وريكي جيرفيز.
يشكل وثائقي HBO الجديد، وثيقة حيوية أخرى عن حياة الفنان وممارساته، ويعيد التذكير بإرثه الفني الضخم، وسط المناخ المتقلب لفن ستاند أب كوميدي، منذ نشأته وحتى اليوم، مبرهنًا على راهنية أعمال كارلين حتى هذه اللحظة، لقيمتها الفنية من ناحية، ولاعتبارها مؤشرًا محتملًا على أننا لم نجتز مشاكلنا القديمة بعد.